التحولات العالمية .. والرؤية والاستراتيجية اللازمة للجنوب

منذ ما بعد الحرب العالمية الأولى، ومع بروز مفهوم "المجال الحيوي" - الذي يشير إلى أن أمن الدولة لم يعد محصورًا بسلامة أراضيها فحسب، بل بات مرتبطًا أيضًا بأوضاع حلفائها ومجال نفوذها - شهد العالم سلسلة من التحولات الجذرية، وصولًا إلى تآكل مفهوم السيادة الوطنية في مرحلة ما بعد الحرب الباردة، بفعل تنامي الهيمنة الدولية، وتصاعد العولمة، وحديثًا انتشار الشركات متعددة الجنسيات التي أصبحت لاعبًا رئيسيًا في صياغة تلك التحولات، حيث أن رأس مال كثير من هذه الشركات يفوق اقتصادات عدة دول مجتمعة.

أدت هذه المتغيرات إلى إعادة تشكيل العلاقات الدولية، وإحداث تداخلات عميقة في عملية صنع القرار السياسي على المستوى العالمي، حيث باتت هذه العملية ترتكز على مفاهيم الهيمنة والتأثير، لا سيما في ما يتصل بإدارة التحولات ومعالجة الصراعات والمنازعات.
إن هذه التحولات تفرض على جميع القوى، سواء كانت محلية أو إقليمية، أن تتعامل معها بوعي عميق، من خلال تقييم مدى تأثيرها السياسي، وقراءة موازين القوى، واستيعاب مصالح اللاعبين الدوليين، والعمل على المواءمة بينها وبين المشاريع السياسية للدول والشعوب، بما فيه الجنوب ومشروعه التحرري.

إن الاستراتيجية الجنوبية المطلوبة لا تتوقف عند قراءة التحولات التاريخية والاستفادة منها في الحاضر، بل تتعدى ذلك إلى استشراف المستقبل واستباق مآلاته المحتملة، عبر مراكز دراسات متخصصة تتولى مهمة وضع استراتيجية جنوبية فعّالة تمكّنها من التعاطي الإيجابي مع المتغيرات العالمية والإقليمية، بما يضمن حضورًا فاعلًا ومؤثرًا للمشروع السياسي الجنوبي ضمن التسوية الشاملة.
ويكفينا أن نتعلم من درس انتصار المعسكر الغربي على المعسكر الشرقي، وانهيار الاتحاد السوفيتي، الذي انعكس بشكل سلبي جدًا على دولة الجنوب، وقاد إلى ما نحن عليه اليوم من تبعات وتداعيات فشل مشروع الوحدة السياسية. ولو أن النظام الجنوبي آنذاك كان على وعي وإدراك بالمتغيرات، لكان بمقدوره القفز من سفينة المعسكر الشرقي، كما فعلت دول كانت ضمن المعسكر الشرقي، أو وضعت البدائل والاحترازات التي تمكنه من احتواء الآثار وتلافي تداعيات الانهيار.
وفي تقديري، يستحسن أن يكون التوجّه العام لهذه الاستراتيجية متوافقًا مع توجهات الجوار، لكون دول الجوار - وفي ظل التحولات العالمية - ذات تأثير بالغ، بحكم ارتباطها بأمن قومي مشترك.