مقابلة مدين ... ذاكرة مبتورة ووفاء مغيب.

بقلم: د. محمد الشعبي 

في ظهوره الأخير عبر قناة "العربية"، حاول مدين علي عبدالله صالح أن يعيد رسم ملامح الحكاية كما يريدها، لا كما جرت على الأرض. بدا اللقاء أقرب إلى عرض سينمائي مطوّل، كُتب على الورق قبل أن يُبث على الشاشة، حيث جاهد مدين لأن يُسند لنفسه ولوالده دور البطولة في المشهد الأخير من حكاية طويلة كان بطلها الحقيقي مَن سقطوا في الميدان، لا مَن كتبوا النهاية في المنفى أو بُنيت لهم الذكريات في الاستوديو.

كان اللافت في اللقاء، أن مدين لم يكن يروي من قلبه، بل من ورقة، وكأن الحقيقة تحتاج إلى "إعداد مسبق" حتى تبدو مقنعة. حديثه عن تفاصيل الهروب من المنزل، وانتقال والده إلى مكان آخر، ومقتله في كمين خارج صنعاء – لا في منزله كما روّج المؤتمريون – بدا أقرب إلى محاولة إزاحة تهمة "الخذلان" عن الكتف العائلي، وإلباس الرداء العسكري لرجلٍ ترَك البندقية وسعى للنجاة دون رفاقه.

لكن الذاكرة الجمعية لليمنيين لا يمكن اختزالها بنص يقرأه مدين، ولا بمشهد صامت لم يُسمع فيه صوت الرصاص من جانب الزعيم. فالجميع يتذكّر أن من وقف في وجه الحوثيين آنذاك، حتى آخر نفس، كان رجلًا اسمه عارف الزوكا، شهيد الموقف الصلب، ورفيق المعركة الذي لم يخذل صاحبه، ولا ساوم على الدم، ولا ارتجف حين اشتد الزحف.

لم يذكر مدين الزوكا بما يستحق، بل مرّ عليه مرور الكرام، وكأنه لا يُشكل إلا ديكورًا في الرواية، رغم أن الزوكا كان هو الرواية بأكملها في تلك اللحظة. لقد صمت مدين عن كثير من الأسماء، لكنه تحدّث مطولًا عن والده، محاولًا صُنع هالة ملائكية حوله، بينما الحقائق على الأرض تحكي قصة أخرى، قصة صمتٍ قاتل، وترددٍ مريب، ومآلٍ لم يكن فيه زعيم يقود، بل رجل هارب يُطارد.

إن تحويل لحظة سقوط صنعاء ومقتل صالح إلى رواية بطولية ملفقة، هو تجنٍّ على الحقيقة، ومحاولة لكتابة تاريخ بديل في ظل الغياب الكامل لشهود الميدان الحقيقيين. التاريخ لا يكتب على لسان من انسحبوا، بل على أكتاف من واجهوا. ولا يُبنى المجد بورقة يُقرأ منها أمام الكاميرا، بل برصاصة تُطلق في صدر العدو، أو كلمة تُقال في وجه الغدر، كما فعل الزوكا يوم قال للحوثيين "أنا مع الزعيم حتى النهاية".

في النهاية، مدين لا يُلام وحده، فهو ابن رجلٍ كان حاضرًا في كل مفاصل اليمن لعقود، لكنه – لحظة الحسم – غاب عن الميدان، وترك من حوله في مواجهة قدرهم. أما من يستحق الخلود في هذه الرواية، فهم أولئك الذين لم يغيروا تبديلاً، ولم ينتظروا منبرًا يروون من خلاله بطولاتهم.. لأن الميدان كان منبرهم، ودمهم كان الحبر الذي كتبوا به أسماءهم في دفاتر الشرف.