حينما تُغلف الجهالة بغلاف التجربة الشخصية!

في أحد المواقف اليومية العابرة التي تكشف حجم الفجوة بين الوعي والسلوك، صعدت امرأة إلى سيارة أجرة ومعها طفلاها الصغيران، وما إن بدأت الرحلة حتى أشعل أحد الركاب سيجارته، فطلبت الأم بلطف أن يمتنع عن التدخين احتراما لصحة أطفالها. غير أن الرد جاء صادما: "لا يضرهم شيء، لدي ثلاثة أولاد دخنت بجانبهم وكبروا، وكل واحد منهم يتقاضى ألف ريال سعودي!".

ولم يكتفِ بهذا التبرير السطح؛ بل أخرج ثلاثة "عرائس" سجائر ليؤكد فخره بعادته، متفاخرا بأنها لم تؤثر على أبنائه كما يزعم. هذه الحادثة ليست مجرد حكاية عرضية؛ بل مشهد متكرر يعكس أزمة أعمق في إدراك كثير من الناس لعواقب أفعالهم، وتغلغل المنطق الفردي في مواجهة الحقائق العلمية والدينية والمجتمعية.

من الناحية النفسية والاجتماعية، الوقوع في فخ "الاستدلال بالتجربة الشخصية" يُعدّ أحد أخطر الانحرافات المعرفية. فتجربته مع أبنائه، وإن صحّت، لا تصلح لتفنيد مئات الدراسات التي أثبتت الأضرار الجسيمة للتدخين السلبي على الأطفال. فالإصابة بالربو، وضعف الجهاز التنفسي، واضطرابات النوم، والتأخر الدراسي، كلها من نتائج هذا التعرض. وقد قال تعالى: ﴿وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ﴾ [الإسراء: 36].

والمشكلة ليست فقط في الجهل؛ بل في الجهر به على أنه "حكمة". فالرجل لم يحترم خصوصية الآخرين، ولم يراعِ وجود أطفال؛ بل اعتبر تدخينه "حقا مكتسبا"، مستندا إلى منطق القوة والتجربة. في حين أن السلوك الإسلامي الحقيقي يدعو إلى الإيثار والرحمة. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا ضرر ولا ضرار» [ابن ماجه].

وما قام به هذا الشخص لا يُعد فقط مخالفة لأبسط قواعد الذوق العام،ط؛ بل يتضمن نوعا من المجاهرة بالإثم، والتي نهى عنها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: «كل أمتي معافى إلا المجاهرين» [البخاري ومسلم].
فهو لم يدخن فقط؛ بل استعرض عدد "البواكت" التي يحملها وكأنه يفاخر بمعصية يضر بها نفسه والآخرين.

وحين يتحدث الإنسان عن أن أبناءه "يتقاضون ألف ريال سعودي"، وكأن هذا الإنجاز يُغفر به تدمير الصحة العامة، فهو بذلك يُسهم في ترسيخ مبدأ النجاح المادي كتبرير للفساد السلوكي. فيُغرس في أذهان الناس، وخاصة الصغار، أن الصحة والأخلاق والاحترام ليست ذات قيمة إذا حققت مالا.

والتدخين بجوار الأطفال هو عنف غير مرئي، وجريمة ناعمة بحق من لا يستطيع الدفاع عن نفسه؛ بل هو شكل من أشكال الاعتداء النفسي والجسدي. وقد بيّن الإسلام أن الطفل أمانة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته» [البخاري ومسلم].

أما ادعاؤه بأن دخوله المادي العالي لأولاده دليل على عدم تضررهم، فهو مغالطة اقتصادية فجة. فالدخل ليس مؤشرا على الصحة ولا على الأخلاق، وقد يكون ارتفاع الدخل ناتجا عن عوامل متعددة، لا علاقة لها بالتدخين ولا بعدم تضررهم منه.

والخلاصة: أن هذا المشهد نموذج لتراجع الوعي الجمعي، حينما تُقابل الدعوة للأخلاق والصحة بالازدراء والتحدي. وهو مؤشر على الحاجة الماسة إلى توعية مستمرة تربط بين الدين والعلم، وتُعيد الاعتبار للمبادئ الإنسانية في التعامل اليومي.

وليست المشكلة في أن يدخن الإنسان (مع خطورته)؛ بل في أن يصر على ممارسة الخطأ وسط الأبرياء، ويبرره بالجهل والتجربة الشخصية، ويعتبر من يطلب حقه في الهواء النقي "متطفلا"!
علينا أن ننتقل من منطق "أنا حر" إلى منطق "أنت مسؤول"، فالمجتمعات لا تبنى بالفردانية؛ بل بالإحساس بالآخر واحترام إنسانيته.
والله تعالى أعلم!
وأدام الله سلامتكم!