دعوة لمراجعة انفسنا
عشنا تجربة طويلة، نحن جيل ما بعد الاستقلال. عايشنا التجربة وتمحصناها، وتعلمنا منها دروسًا كثيرة، سمعنا روايات متعددة، وشهدنا مآسي كثيرة ، خاصة في الجنوب. انتُهكت حقوق الناس، والشعب، والوطن. فُرّط في الثروة، وفي السيادة، وفي كرامة الإنسان. ما حدث في الجنوب لا يمكن تخيله في أي مكان آخر.
إعلام الدولة آنذاك، الإعلام المؤدلج المسيّس، ركّز دائمًا على فكرة “المؤامرة الخارجية”. رُددت هذه الفكرة باستمرار، حتى صدّقنا أننا مستهدفون من الجميع. أصبحنا نشكك في أنفسنا، نشكك في نوايانا، ونخاف حتى من أفكارنا. الإعلام كان يكرر خطاب المؤامرة ليل نهار، عبر الإذاعة والتلفزيون والصحف، حتى ترسخت هذه الفكرة في أذهان الناس.
اليوم، ما زالت تلك العقلية قائمة. الجيل الثالث من الثورة ما زال يؤمن بأن هناك مؤامرة تحاك في كل زاوية. قبل يومين، قرأت منشورًا لأحد القادة الأمنيين قال فيه إنهم ألقوا القبض على مجموعة أطلقت قنابل صوتية. وهي حادثة أمنية خطيرة بلا شك، لكنها تظل حادثة محدودة. ما كان مؤلمًا هو التعليقات على المنشور: دعوات إلى القتل، والإعدام، والحرق، بحجة أن هناك مؤامرة كبرى. الناس يتصرفون وكأنهم قضاة، يقررون المصير دون محاكمة أو دليل.
هذا السلوك ناتج عن تراكمات تربوية وتعبئة أيديولوجية سادت في الجنوب لعقود. تعبئة تقوم على الخوف، والريبة، والتشكيك في كل شيء. نحن بحاجة لمراجعة أنفسنا، لمراجعة علاقتنا ببعضنا، ونظرتنا إلى العالم. كيف تتعامل الشعوب الأخرى مع القضايا الأمنية؟ بالقانون. يقدَّم الجاني إلى القضاء، والقضاء هو من يفصل. لا يحق لنا أن نصنف الأحداث دائمًا على أنها “مؤامرات”، ولا أن نحكم بالإعدام من وراء الشاشات.
نعم، من حقنا أن نخاف على أمننا، على أرضنا، على بيوتنا، وهذا أمر طبيعي. لكن لا يجوز أن نأخذ دور القضاء بأيدينا. علينا أن نكون مواطنين واعين، نحذر من الخطر، نعم، لكن لا ننجرّ إلى خطاب التحريض والتخوين. لأن ما نراه اليوم هو نتيجة طبيعية لتلك التعبئة الإعلامية التي غذّت العقل الجمعي، عبر ثلاثين سنة من الأدلجة والخداع والتخويف.