خداع النفس بالتبرير المريح
بقلم: حسن الكنزلي
من أخطر ما يُصيب القلوب أن تُصبح النفس خصم الحقيقة، فتدافع عن خطئها؛بدل أن تُقِر به، وتُزيِّن زلّتها؛ بدل أن تتوب منها. ذلك المرض الخفي الذي لا يُحدث ضجيجا؛ لكنه يهدم من الداخل، ويصنع في القلب راحة كاذبة، وسكينة مزوَّرة؛ فالإنسان – مهما حاول – يعلم تقصيره، ويُدرك موضع خطئه، ولو ألقى ألف عذر وعذر؛ لأن بصيرته أصدق من تبريره؛ ولكن الهوى إذا استولى، أعشى البصر والبصيرة معا.
التبرير ليس مجرد كلمة تُقال؛ بل حالة نفسية يُخدر بها المرء ضميره؛ ليهرب من مواجهة الحقيقة المرة التي تقود إلى الإصلاح. هو أن يخطئ الإنسان، ثم يطمئن قلبه بالباطل؛ فيقول: لم أقصد، الظروف أجبرتني، غيري فعل أكثر... كلمات ناعمة؛ لكنها تقتل الإحساس بالذنب، وتغلق باب التوبة، وتفتح أبواب الغفلة على مصراعيها.
في المقابل؛ يظل الاعتذار الصادق فعل شجاعة؛ لا ضعف؛ لأنه اعتراف بالحقيقة دون تزيين. الاعتذار نور، والتبرير ظلمة؛ الأول يرفع صاحبه، والثاني يُسقطه وهو يظن أنه يحسن صنعا. وقد حذّر القرآن من هذا الوهم القاتل؛ حين يصنع الإنسان لنفسه صورة زائفة، فيعيش مطمئنا وهو في التيه.
وقد نبَّه السلف الصالح إلى هذا المعنى بعبارات تقطر بصيرة. قال الحسن البصري رحمه الله: "ما خافه إلا مؤمن، ولا أمنه إلا منافق" ؛ فالمؤمن إذا زلّ تاب، والمنافق إذا زلّ برّر؛ فالتبرير ليس مجرد خطأ أخلاقي؛ بل علامة على مرض أعمق في القلب.
ولم يولد التبرير اليوم؛ بل هو قديم قِدم العصيان. أول من برّر خطيئته في التاريخ هو إبليس؛ حين واجه الأمر الإلهي بالكِبر، فاختار أن يجمّل معصيته؛ بدل أن يعترف بها. ومن بعده توالت السلسلة؛ أقوام جعلوا التقاليد عذرا للباطل، وطغاة زيّنوا ظلمهم باسم الحكمة، ومنافقون تخلّفوا عن الحق باسم الواقعية. وإنها الحيلة ذاتها، تتبدل الأسماء ويبقى الجوهر واحدا.
واليوم، صار التبرير لباسا أنيقا يلبسه الباطل؛ يُسمّى الغش ذكاء، والظلم حزما، والتفريط حرية، والمعصية خيارا شخصيا. تغيّرت الألفاظ؛ لكن الحقائق لم تتغيّر. وقد نبّه العلماء إلى خطورة هذا التزيين؛ لأن تغيير الأسماء لا يغيّر جوهر الأشياء، بل يضلّل العقول ويُميت الضمائر.
وحين يُصبح التبرير ثقافة عامة؛ لا يقف فساده عند الأفراد؛ بل يتسلل إلى المجتمعات. مجتمع يبرّر أخطاءه لا يُصلحها، ويُسمّي التقصير واقعية، والتخاذل تعقّلا. عندها تتراكم الأعذار، ويقلّ الاستغفار، ويغيب الحياء، ويُفتح الباب لكل انحدار.
وقد قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه كلمةً جامعة: "من عرف نفسه؛ لم يضرّه ما قال الناس فيه". فمن عرف موضع ضعفه؛ لم يحتج إلى تبريره، ومن راقب ربه؛ لم يجمّل باطله.
إن أخطر ما في التبرير أنه يُعوِّد النفس على الهروب من المحاسبة. ومع الوقت، يتحول الذنب إلى عادة، والمعصية إلى أمر مألوف، حتى يفقد القلب حساسيته. وحينها يرى الإنسان القبيح حسنا، ويستطيب مرارة الذنب، كما نبّه ابن القيم رحمه الله في حديثه عن خداع النفس وتزيين الأعمال.
لكن لهذا الداء دواء، وأوله شجاعة الاعتراف؛ فالإنسان لا يهلك لأنه أخطأ؛ بل لأنه أصرّ على تبرير خطئه. ومحاسبة النفس، ومراجعة القلب، وصدق النية، ومخالطة الصالحين، وطلب العلم الصحيح؛ كلها أنوار تفضح الأعذار الكاذبة، وتعيد للضمير يقظته.
ومن أعظم مفاتيح النجاة أن يتعلّم الإنسان قول: أخطأت. كلمة ثقيلة على اللسان؛ لكنها خفيفة في ميزان النجاة. أما من اعتاد لكن ولأن والظروف؛ فقد استبدل طريق الإصلاح بجدارٍ من الأعذار، لن يحميه يوم تُكشف السرائر.
وقد لخّص أبو حامد الغزالي رحمه الله المعنى بقوله: "من اعترف بذنبه؛ فقد جعل بينه وبين النار جدارًا من الدموع"؛ فالاعتراف بداية الطريق، والتبرير نهايته المسدودة.
إن الإسلام لا يطلب إنسانا بلا خطأ؛ بل قلبا صادقا؛ لا يخادع نفسه. فالتائب الصادق – وإن كثرت زلاته – خير من مبرّر مكابر لم يرَ في نفسه عيبا. وأعظم نصر يحققه الإنسان ليس أن يغلب غيره؛ بل أن يغلب نفسه حين تدعوه إلى تزيين الخطأ.
فلنقل لأنفسنا بصدق: كفى تبريرًا؛ فالتبرير يُرضي النفس لحظة، ويُهلكها دهرًا؛ أما الصدق – وإن آلم – فهو أول الطريق إلى السلام.
نسأل الله أن يصرف عنّا التبرير والتزيين، وأن يمنحنا شجاعة الاعتراف والرجوع إليه، ودمتم سالمين!


