تحرير سعر الدولار الجمركي في اليمن: إصلاح مالي أم عبء اجتماعي يتحمله الجنوب؟

تحرير سعر الدولار الجمركي في اليمن: إصلاح مالي أم عبء اجتماعي يتحمله الجنوب؟

( أبين الآن) كتب: د ـ وليد عبدالله محمد الوليدي

تحليل اقتصادي مؤسسي في سياق هشاشة الدولة وتشتت الإيرادات مع توصيات عملية قابلة للتنفيذ والقياس ، في البدء نشير إلى أن مقالنا هذا هو الجزء الأول من سلسلة مقالات تحليلية نناقش فيها رفع سعر الدولار الجمركي، ومنهجية الإصلاح المالي.

في بلدٍ يستورد أكثر من 90% من غذائه، ودوائه، ووقوده، لا يمكن النظر إلى رفع سعر الدولار الجمركي بوصفه قراراً مالياً معزولاً، بل بوصفه صدمة اقتصادية مباشرة تمس حياة كل أسرة، وتعيد تشكيل كلفة المعيشة، وحدود الفقر، وتوازنات الأسواق. وبين خطاب رسمي يقدم رفع سعر الدولار الجمركي باعتباره إصلاحاً ضرورياً لتعزيز الإيرادات العامة، وتحذيرات واسعة من تحوله إلى عبء معيشي جديد، يطرح هذا المقال سؤاله الجوهري: هل يمكن لإجراء سعري منفرد أن يعالج أزمة إيرادات في دولة تعاني هشاشة مؤسسية، وتشتتاً في منظومة الجباية، وضعفاً مزمناً في حماية الأسواق؟
لا ينطلق سؤالنا هذا من رفض مبدئي لأي إصلاح مالي، بل من قراءة تحليلية تستند على بيانات صندوق النقد الدولي، وتجارب دول هشة مماثلة، تظهر أن جوهر الخلل في اليمن لا يكمن في مستوى التعرفة الجمركية بحد ذاته، بل في بنية الإدارة المالية العامة: كغياب الحوكمة، وتفكك الإيرادات، وازدواج المؤسسات، وضعف الامتثال الضريبي والجمركي، وغياب أدوات الرقابة الفعالة وضبط الأسواق.
 وفي هذا السياق، يصبح رفع سعر الدولار الجمركي دون إصلاحات مؤسسية مسبقة بمنزلة تعديل سعري لا يعالج اختلالات مؤسسية هيكلية، يفرض كلفة فورية على المجتمع، في حين يترك جذور الخلل دون معالجة.
وتكتسب هذه الإشكالية بعداً أكثر خطورة حين تقاس بواقع اجتماعي واقتصادي بالغ الهشاشة. فبيان صندوق النقد الدولي الصادر في أكتوبر 2025 يصنف اليمن بوصفها إحدى أسوأ الأزمات الإنسانية في العالم، ويؤكد أن أكثر من نصف السكان يحتاجون إلى مساعدات عاجلة، وأن التضخم كان أحد أسباب انكماش الناتج المحلي الإجمالي بنسبة ‎1.5% عام 2024 (صندوق النقد الدولي، 2025). ورغم هذا التشخيص الحاد، يوصي البيان نفسه برفع سعر الدولار الجمركي في بلد يعيش فيه 82% من السكان تحت خط الفقر متعدد الأبعاد (UNDP–OPHI، 2024)، وتعجز 60% من الأسر عن تلبية احتياجاتها الأساسية (WORLD BANK، 2025). ويبلغ التناقض ذروته حين يقر البيان بأن انخفاض قيمة العملة والتضخم كبحا الدخول الحقيقية، ثم يدعم في الوقت نفسه سياسة من شأنها تسريع هذا التآكل بحجة تعزيز الإيرادات العامة.
ويزداد هذا الاختلال المنهجي وضوحاً حين يحذر البيان من أن ارتفاع الأسعار العالمية يمثل خطراً خارجياً يمكن أن يعيق الإصلاحات ويزعزع الاستقرار الاقتصادي، قبل أن يوصي بسياسة داخلية ترفع كلفة الاستيراد مباشرة عبر رفع سعر الدولار الجمركي، بما يحول الخطر الخارجي إلى صدمة تضخمية داخلية مفتعلة. فالدولار الجمركي هو سعر الصرف المعتمد لاحتساب الرسوم على الواردات، وأي رفع له ينعكس فوراً على كلفة السلع المستوردة. وفي اقتصاد يعتمد على الاستيراد لتأمين معظم احتياجاته الأساسية، تنتقل هذه الكلفة سريعاً من الميناء إلى السوق، ومن التاجر إلى المستهلك، دون حواجز حماية اجتماعية أو رقابية فعالة.

غير أن الأثر لا يتوزع جغرافياً بشكل متكافئ، وهنا تبرز خصوصية الجنوب بوصفه الحلقة الأضعف في هذه المعادلة. فالجنوب لا يتحمل فقط الأثر السعري المباشر لارتفاع كلفة الاستيراد، بل يواجه كلفة مزدوجة مركبة: من جهة، ارتفاع الأسعار في أسواق تعاني أصلاً ضعف القوة الشرائية وتراجع الدخل، ومن جهة أخرى، تحول جزء متزايد من حركة الاستيراد نحو الموانئ الشمالية، نتيجة الفوارق في الرسوم، وهو ما يؤدي إلى تآكل إيرادات الموانئ الجنوبية، ويقوض أحد أهم مصادر الدخل المحلي.
وبذلك، لا يعود تحرير الدولار الجمركي في الجنوب مجرد إجراء مالي عام، بل يتحول إلى عامل إضافي لإضعاف القاعدة الإيرادية المحلية، وتعميق اختلال التوازن بين الموانئ، وزيادة الضغط على الأسواق والخدمات، في ظل غياب سياسات تعويضية، أو أدوات حماية اجتماعية، أو آليات واضحة لإعادة توجيه جزء من الإيرادات المتحققة نحو تخفيف الأثر المعيشي. وهنا يصبح السؤال: كيف يمكن لسياسة يفترض إنها تهدف إلى تعزيز الإيرادات العامة، أن تؤدي عملياً إلى إضعاف أحد أهم المصادر الإيرادية في البلاد؟
من هذه الزاوية، لا يختبر تحرير الدولار الجمركي فقط بوصفه أداة مالية، بل بوصفه اختباراً لمنهجية الإصلاح نفسها: فهل تبنى السياسات العامة على تشخيص واقعي متسق يربط بين الأسباب والأدوات، أم تطبق حلول سعرية سريعة في بيئة مؤسسية غير مهيأة، فتنتج آثاراً عكسية على الاستقرار المعيشي والاقتصادي؟

في الأجزاء القادمة من هذه السلسلة التحليلية، ينتقل التحليل من توصيف الأثر إلى تفكيك المنهج: من التناقض بين التشخيص المؤسسي والحل السعري في توصيات صندوق النقد الدولي، إلى أسباب تراجع الإيرادات كما يوردها البيان وما يغفله، مروراً بإشكالية الحوكمة وتسلسل الأولويات المفقودة، ودور مكافحة الفساد بوصفه شرطاً مسبقاً لأي إصلاح جمركي وضريبي، والعدالة الضريبية الغائبة وضعف الرقابة وضبط الأسواق، والدور الذي ينبغي على الشركات والمؤسسات الحكومية القيام به، وصولاً إلى تحليل الأثر غير المتكافئ للقرار على الجنوب، وانتهاء بمحور توصيات يشكل خريطة طريق قابلة للتنفيذ والقياس، تجعل من الإصلاح المالي مساراً مؤسسياً متكاملاً لا عبئاً يدار على حساب المواطن.

د. وليد عبد الله محمد الوليدي

(يتبع في الجزء الثاني…)