ذكريات عسكرية ساخنة

 بقلم: صالح ناصر سالم الحنشي

كنا يومها في ربيع العمر، مسحورين بالوطنية، مشبعين بالحماس الذي أشعلته فينا خطابات جمال عبد الناصر، وأصداء الثورة الجزائرية، وحروب جيفارا، وثورة اليمن وأغاني البندقية لأم كلثوم، وألحان “وطني الأكبر”، وأناشيد لطفي جعفر أمان: “يا بلادي كلما أبصرت شمسان الأبي”.
كان صوت أحمد سعيد من إذاعة "صوت العرب" يلهب مشاعرنا، فيغدو الحماس وقودًا لا ينضب.

في تلك الأيام كنا نقيم في معسكر سيدا سير لاين، تحيط بنا معسكرات الإنجليز من كل جانب، ولم يتركوا لنا سوى طريق ضيق، بالكاد يتسع لسيارة، يفضي عبر البوابة الغربية إلى الكلية البريطانية.
كنا نحترق شوقًا لأي عمل فدائي، وقد التحقنا بالخلايا السرية عام 1966م. كان يقود العمل السري رفاق بارزون: مسدوس، بلعيد، علي ناصر والسيلي وآخرون في كتيبة اللا سلكي وكان “مسدوس” الأبرز بينهم، لصلته بقيادات عليا.
كنت أتمنى أن يُكلفوني بعمل فدائي، لكن محمد سالم السيلي، أحد القياديين، كان ينصحني دائمًا أن أتمهل قائلاً: “مالك حاجة، أنت ما زلت صغيرًا”. ويبدو أنهم أشاروا إلى “مسدوس” عن اندفاعي الثوري ذاك.

في أحد الأيام وجدت نفسي مرتديًا بزتي العسكرية، أحمل بندقيتي إلى جانب زميلي في الخلية السرية محمد حسين علي مارمي، المعروف باسمه الحركي “مهدي”. كان قائد الكتيبة، الأخ بلعيد، يجلس في مقدمة السيارة التي يقودها “مكيراس”. في السيارة معنا أسلحة وقنابل وذخائر.

وصلنا إلى بداية المطار على ساحل أبين ، وكانت هناك نقطة تفتيش حساسة. أوقفنا الجندي وإمامه برميل وسط الطريق ، ثم أدى التحية للقائد، ومر السائق بين البراميل، لكنه ارتطم بأحدها، فراح يتدحرج. في تلك اللحظة صاحت الهواتف العسكرية، وتوهمنا أن الأمر قد انكشف.
جنب السائق مرتبكًا، ثم نزل وترجّل القائد "الكولونيل بلعيد" بهدوء أعصاب، والرتبة العسكرية تتلألأ على كتفيه. وإذ بنا نلمح ضابطًا إنجليزيًا جالسًا بجانب خيمته، نهض وأشار إلينا مبتسمًا: “أوكي… أوكي… امشوا”.

عاد القائد بلعيد إلى السيارة، وتحركنا، لكنه ظل يلعن السائق ويؤنبه بشدة، يتهمه بالجبن. واصلنا الطريق حتى معسكر ليك لاين. هناك ترجل القائد، وكلفنا بإيصال الأسلحة إلى منزل في الشيخ عثمان، في آخر شارع باتجاه المنصورة.
وبالفعل، ما إن وصلنا حتى خرج الفدائيون مسرعين، ملثمون، يحملون الأسلحة ويختفون بها. عدنا بعدها بسلام، لكن حرارة الموقف بقيت تسري في عروقنا، كأنها جزء من دمنا. وعدنا بسلام