في يومه العالمي.. المعلم اليمني بلا راتب: صانع الأجيال الذي شردته الحرب وتجاهلته الحكومة
في الخامس من أكتوبر من كل عام تحتفل شعوب العالم باليوم العالمي للمعلم يومٌ تُرفع فيه الأقلام إجلالًا لصانع العقول ومهندس الوعي وباني الحضارة تُضاء المنصّات وتُمنح الجوائز وتُكتب القصائد والخطب لتكريم من حملوا رسالة الأنبياء وساروا على دربهم في التعليم والتنوير. لكن بينما تُعزف سيمفونيات التقدير في أنحاء المعمورة يقف المعلم اليمني حزينًا مكسور الخاطر يحتفل بصمته ودموعه، في وطنٍ بات فيه التعليم آخر ما يُفكَّر فيه والمعلم آخر من يُكرَّم.
منذ أن أقرّت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو) اليوم العالمي للمعلم عام 1994، أصبح هذا اليوم مناسبةً لتسليط الضوء على الدور المحوري للمعلمين في بناء المجتمعات وتشكيل المستقبل. في فنلندا، يُعتبر المعلم من أكثر الفئات احترامًا ومكانة اجتماعية، وتُمنح له امتيازات تفوق حتى تلك الممنوحة للأطباء والمهندسين. في اليابان يُنظر إلى التعليم على أنه رسالة وطنية مقدسة ويُعامل المعلم كقدوة أخلاقية ومثال للانضباط. أما في دول الخليج فيُحتفى بالمعلم عبر حوافز مالية ومبادرات وطنية تُشيد بدوره التربوي. في تلك البلدان، يدرك الناس أن الاستثمار في المعلم هو الاستثمار الحقيقي في المستقبل، وأن الأمم لا تُبنى بالإسمنت فقط، بل بالوعي والمعرفة والقيم التي يغرسها المعلم في عقول الأجيال
يقف المعلم اليمني اليوم في طابور طويل من المعاناة بعد أن تحوّل من حاملٍ لرسالة التعليم إلى ضحيةٍ لواقعٍ مرير منذ سنوات لم يتلقَّ عشرات الآلاف من المعلمين رواتبهم بانتظام بل إن بعضهم لم يرَ راتبه منذ أكثر من سبع سنوات متواصلة في واحدة من أقسى الأزمات الإنسانية التي شهدها قطاع التعليم في العالم
في المدارس الحكومية تجد معلمين يدرسون من دون أجر يقطعون المسافات الطويلة سيرًا على الأقدام أو على دراجات متهالكة، فقط ليقفوا أمام سبورة باهتة وطلابٍ يحدقون في وجوههم بحثًا عن أمل يُعلّمون الأطفال القراءة والكتابة بينما لا يجدون هم ما يقرؤونه على موائدهم من طعام ولا ما يكتبونه في دفاتر أبنائهم من أحلام.
يقول أحد المعلمين في اليمن بنبرةٍ تختلط فيها المرارة بالفخر نحن نُدرّس أبناء الناس بينما أبناؤنا بلا مدارس نُعلّم الصبر ونحن أول من يُمتحن به
غياب الرواتب وتدهور الأوضاع المعيشية أجبر كثيرًا من المعلمين على ترك المهنة بحثًا عن عملٍ آخر يُعينهم على الحياة. فبعضهم أصبح بائعًا متجولًا وآخرون لجؤوا إلى العمل في الزراعة أو النقل أو حتى التسوّل في مشهدٍ موجع لكرامة المهنة ورسالتها. وقد أدى هذا النزيف البشري إلى تدهور العملية التعليمية بشكل خطير إذ أُغلقت آلاف المدارس في المناطق النائية وارتفعت معدلات تسرب الأطفال من التعليم، خاصة الفتيات ما ينذر بجيلٍ مهددٍ بالجهل والانكسار
تُقدّر تقارير المنظمات الدولية أن أكثر من 2 مليون طفل يمني خارج المدارس فيما يعاني أكثر من 70% من الكادر التعليمي من انقطاع الرواتب أو تدنيها إلى مستويات لا تكفي قوت يوم واحد. هذا الواقع لا يهدد التعليم فحسب بل يهدد مستقبل اليمن بأسره لأن لا تنمية ولا سلام دون تعليم ولا تعليم دون معلم كريم مكرّم.
رغم كل هذه الظروف لا يزال آلاف المعلمين في اليمن يواصلون أداء واجبهم بتفانٍ نادر، غير آبهين بما فقدوه من حقوق، بل بما يمكن أن يمنحوه للأجيال القادمة من نور. هم يُدرّسون في فصول بلا نوافذ على كراسي مكسورة بكتبٍ قديمة وأقلامٍ مستعملة لكنهم يحملون في قلوبهم إيمانًا عميقًا بأن التعليم هو آخر خيط يربط اليمن بالحياة.
في الريف والمدينة في الجبال والسهول في مدارس طينية وأخرى مهدّمة يقف المعلم اليمني شامخًا كجبل نقم صامدًا كقلب أمٍّ يمنيةٍ لا تعرف اليأس إنه لا يدرّس فقط الحروف بل يُعلّم معنى الصبر والكرامة والتمسك بالأمل حتى في أحلك الظروف
وفي هذا اليوم العالمي حين تُنشد الأغاني في باريس وتُوزَّع الجوائز في الدوحة وتُلقى الكلمات في نيويورك يقف المعلم اليمني متسائلًا هل يعلم العالم أن هناك من يحتفل بيوم المعلم وهو بلا راتب منذ سنوات؟ هل يدرك أولئك الذين يرفعون الشعارات أن هناك معلمًا يعلّم الأطفال الجغرافيا وهو لا يعرف كيف سيجد طريقه إلى لقمة العيش غدًا؟
الاحتفال الحقيقي باليوم العالمي للمعلم لا يكون بالورود والهتافات بل بضمان كرامته وحقه في العيش الكريم. فلا يمكن أن تُبنى الأمم على أكتاف معلمين جائعين ولا أن يُكتب لمستقبلٍ النهوض حين يُهمَل من يصنعه. يا أيها العالم الذي يحتفل بالمعلم، التفت قليلاً إلى اليمن، حيث يقف معلمٌ في فصلٍ بلا كهرباء يكتب على سبورةٍ سوداء بقطعة طباشيرٍ مكسورة، ويبتسم رغم الألم التفت إلى معلمٍ آخر لم يتقاضَ راتبه منذ سنوات لكنه لم يترك طلابه، لأنه يؤمن أن الجهل أخطر من الجوع وأن الكلمة أقوى من الرصاصة
إن إنقاذ التعليم في اليمن هو إنقاذ لوطنٍ بأكمله فالمعلم اليمني ليس موظفًا عاديًا بل هو حارس الوعي في زمن الفوضى وجنديٌّ في معركة الوجود الوطني. ولعلّ أعظم تكريمٍ له في يومه العالمي أن يُعاد إليه حقه، وأن يُسمع صوته وأن يُقال له بصدقٍ لا بشعارات شكرًا أيها المعلم اليمني... لأنك ما زلت تزرع النور في زمن العتمة