الكل يسأل:"هل صرفوا؟" كلمة السر للخلاص من معاناة أربعة أشهر بلا راتب

في بلادنا،لم يعد السؤال الأكثر تكرارًا عن الحرب أو السياسة أو أسعار المواد الغذائية،بل عن شيءٍ أبسط بكثير،لكنه أكثر وجعًا:" الراتب" .ففي كل بيتٍ ومؤسسةٍ وشارع،يتردد السؤال ذاته بصوتٍ واحدٍ يختصر مأساة وطنٍ بأكمله:"هل صرفوا؟"السؤال الذي كان في الماضي عابرًا،صار اليوم عنوانًا دائمًا للقلق الجماعي،وكلمة السرّ في حياة مئات الآلاف من الموظفين الذين دخلوا شهرهم الرابع بلا راتب.ففي الأسواق يتبادل الناس أخبار الرواتب كما يتبادلون أخبار الطقس في بلدٍ لا تمطر فيه إلا الوعود.وفي المقاهي،تتكرر الشكوى نفسها كل صباح:"يقولون هذا الأسبوع"، "ربما غدًا"، "سمعنا أن هناك توجيهات بالصرف"،ثم لا يحدث شيء أما في البيوت،فالحكاية أكثر قسوة؛ آباء يحاولون إخفاء عجزهم عن أبنائهم وأمهات يبتكرن طعامًا من اللاشيء ومعلمون وأطباء وموظفون يقاومون إحباطًا يوميًا لا يقلّ ألمًا عن الجوع ذاته.

لقد أصبحت الرواتب في بلادنا مرآةً تكشف حجم الفجوة بين الخطاب الرسمي والواقع.فبينما تتحدث البيانات عن “تحسين الأداء المالي” و“جهود الحكومة لتخفيف المعاناة”،لا يجد المواطن أمامه سوى المزيد من الصمت، وكأن الجوع يمكن تبريره بالظروف،أو تأجيله حتى إشعارٍ آخر.لكن الحقيقة أن الصبر لا يُدار بالقرارات،وأن كرامة الناس ليست بندًا في الموازنة يمكن تجميده أو تأجيله.فأربعة أشهر بلا راتب ليست مجرد تأخيرٍ إداري،بل جرحٌ في كرامة الإنسان،ومشهدٌ يلخص الفشل الإداري والإقتصادي في أبشع صوره فقد اضطر كثير من الموظفين إلى بيع ما تبقّى لهم من ممتلكات بعضهم باع أثاث منزله، وآخرون رهنوا ذهب زوجاتهم،ومنهم من لجأ إلى الاقتراض مقابل وعدٍ مؤجل بالسداد حين يُصرف الراتب،وأربعة أشهر من الصبر لا تعني الرضا،بل تعبًا يتراكم في الصدور، وغضبًا يشتعل ببطءٍ تحت رماد الصمت.والذين يصمتون اليوم خوفًا أو عجزًا،لن يصمتوا غدًا حين يتحوّل الجوع إلى صوتٍ لا يمكن تجاهله.

إن تأخر صرف رواتب موظفي الدولة طوال هذه الأشهر ليس مجرد تقصيرٍ في الإدارة،بل فعلٌ ممنهج يعكس استخفافًا بالإنسان،وامتهانًا لكرامته.فكيف لسلطةٍ تتحدث عن الوطن والتنمية أن تعجز عن أبسط واجباتها تجاه من يخدمونها؟

وكيف يمكن لمن ينفق الملايين على الفعاليات والاحتفالات أن يبرر عجزه عن دفع مستحقات الناس؟.وإن صمت الجهات المعنية عن توضيح الأسباب أو تحديد موعدٍ واضحٍ للصرف،لا يمكن تفسيره إلا كاستهانةٍ بمعاناة الناس ورسالةٍ سلبية مفادها أن المطالب المعيشية لم تعد ضمن أولويات صُنّاع القرار.في حين تُنفق مبالغ ضخمة على الفعاليات والبروتوكولات والمهرجانات يظل راتب الموظف البسيط مؤجلًا لأجلٍ غير مسمى.

وأخيراً إما آن الأوان أن تعيد الجهات المسؤولة النظر في موقفها،وأن تُدرك أن استمرار تجاهل قضية صرف المرتباتٍ فحين يطول التجاهل،ويتحول الصبر إلى عبء،يصبح الصمت سياسةً مقصودة ورسالةً غير معلنة مفادها: "اصبروا... فأنتم بلا صوتٍ ولا حق."فصبر الناس ليس ضعفًا،لكنه مؤقت،ومن صبر أربعة أشهر بلا راتب،قادرٌ على أن يصبر أكثر،وصوت الجائع حين يعلو لا يُسكت بسهولة ولن يغفر بسهولة لمن جعل كرامته تُقاس بعدد الأشهر التي بلا أجر، ولا لمن حول الخبز إلى حلمٍ مؤجل.