مأساة المسكيت (السيسبان) ودروس الإهمال البيئي

بقلم: حسن الكنزلي

إنّ من سنن الله الثابتة في هذا الكون أن النعمة إذا أُسيء استعمالها انقلبت نقمة، وأن الجهل بسنن الله في الخلق سبب للهلاك والفساد. يقول تعالى: ﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ﴾ [الروم: 41].

وما أكثر ما رأينا من نِعَم بدأها الناس بخير، ثم أساؤوا إدارتها بجهل واستعجال، فصارت وبالا عليهم وعلى بيئتهم. ومثال ذلك ما نراه اليوم في بلادنا من كارثة بيئية صامتة اسمها المسكيت – أو كما يسميه البعض السيسبان – ذلك النبات الذي دخل أرضنا ضيفا فأصبح غازيا، وزُرع كعلاج فصار هو الداء.

بدأت القصة حين استُقدم هذا النبات قبل عقود بدعوى مكافحة التصحر. رأى فيه بعض الخبراء آنذاك وسيلة لوقف زحف الرمال، دون دراسة كافية لطبائعه أو أثره على البيئة المحلية. تركوه في الصحراء بلا متابعة، فترك الصحراء تتصحّر، وغزا الأودية والسهول، وامتد في قنوات الري والحقول والقرى.

وبحسب تقارير منظمة الأغذية والزراعة العالمية (FAO، تقرير 2023)؛ فإن المسكيت من أكثر الأنواع الغازية خطرا في إفريقيا والجزيرة العربية، لما يتميز به من قدرة هائلة على التمدد السريع، وتجفيف المياه، وتسميم التربة بمركباته الكيميائية. أما في اليمن، فقد أظهرت تقارير وزارة الزراعة (2022) أن المسكيت غطّى آلاف الهكتارات من الأراضي الزراعية في تهامة وحضرموت والمهرة، متسببا بخسائر اقتصاديةٍ فادحة وانكماش في المراعي الطبيعية.

وهكذا تحوّلت النية الحسنة إلى نتيجة وخيمة؛ لأن النية وحدها لا تكفي؛ ما لم ترافقها معرفة وعلم وتخطيط.

لم يعد المسكيت مجرّد شجرة شوكية قاسية؛ بل غدا وباءً بيئيا يقتل ما حوله من نباتات؛ إذ يمتص الماء من أعماق التربة ويحتكر الغذاء لنفسه. يفرز موادا تمنع إنبات غيره فيما يعرف علميًا بالتثبيط الكيميائي (Allelopathy)، فلا يجاوره نباتٌ آخر.

أصبح يغلق مجاري السيول، ويهدم قنوات الري، ويفسد المراعي؛ بل تسلل إلى القرى والأحياء، فصار مأوى للحيات والعقارب والبعوض، وموضعًا للنفايات، فاجتمع فيه الفساد البيئي والصحي والاجتماعي. إنه مشهد يختصر الآية الكريمة: ﴿وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا﴾ [الأعراف: 56].

يرى الناس المسكيت أولَ الأمر صغيرا، فيتركوه، حتى يتفاجؤون به وهو غول لا يُقتلع بسهولة. ومن المؤلم أن حملات المكافحة التي جرت في بعض المناطق فشلت؛ لأنها اكتفت بقطع الأغصان، وترك الجذور تنبت من جديد. تماما كما قال المثل: "من قطع الشر دون أصله عاد إليه أعنف من قبل".

وهكذا في شؤون البيئة والمجتمع سواء؛ فالفساد لا يُعالج بالمظاهر؛ بل بالعودة إلى الجذور، إلى العلم والإدارة والتخطيط. وقد قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "إني لأخشى أن يُسأل الناس عن البهائم، لِمَ لمْ يُصلحوا لها مراعيها؟" فكيف بمن يترك أرضه وبيئته تُدمَّر وهو قادر على إصلاحها؟

إن الإسلام دين عمارةٍ لا تخريب، وإصلاحٍ لا إفساد. قال الله تعالى: ﴿هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا﴾ [هود: 61]؛ أي طلب منكم عمارتها بالخير والنفع. ومن فرّط في بيئته، أو تركها تفسد، فقد خان أمانة الله في الاستخلاف. إن حماية الأرض ليست عملا بيئيا فحسب؛ بل واجبا دينيا وإنسانيا ووطنيا؛ ولذلك قال ابن مسعود رضي الله عنه: "ليس من العدل أن تأخذ نعمة زمانك وتدع فسادها لمن بعدك". أليس في ذلك دعوة صريحة إلى المسؤولية تجاه الأجيال القادمة؟

ورغم كل ذلك؛ فالأمل باقٍ فالعلم الحديث يؤكد أن المسكيت يمكن أن يُدار لا أن يُترك؛ فأخشابه تُستخدم في صناعة الفحم الصديق للبيئة، وقرونه في إنتاج الأعلاف الحيوانية، وأوراقه في صناعة السماد العضوي. وقد نجحت دول كالسودان وإثيوبيا في تحويله من نقمة إلى مصدر دخل للفقراء. وهكذا، يمكن تحويل الداء إلى دواء متى أحسنّا الإدارة. ﴿فَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا﴾ [النساء: 19].

لكن الطريق إلى ذلك يبدأ من الوعي الجمعي؛ توعية الناس عبر الإعلام والمدارس والمساجد، إشراك المجتمع في الحملات البيئية، ودعم الدولة للمشاريع العلمية والميدانية لمكافحته.

حماية البيئة ليست ترفا فكريا؛ بل عبادة من جنس العمل الصالح. قال النبي ﷺ: «الإيمان بضعٌ وستون شعبة، فأفضلها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق»؛ هذا في حق من يزيل الأذى عن طريق واحد، يُثاب؛ فكيف بمن يرفع الأذى عن الأرض كلّها؟

إن المؤمن الذي يغرس شجرة أو ينقذ أرضا من الفساد هو في عبادة خالصة؛ لأنه يعمر ما استخلفه الله عليه. قال ﷺ: «ما من مسلم يغرس غرسًا أو يزرع زرعًا فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة إلا كان له به صدقة».

أيها الأحبة! إنّ ما نراه اليوم من انتشار المسكيت ليس قدرا محتوما؛ بل نتيجة جهل يمكن إصلاحه، وإهمال يمكن تجاوزه. وما أحوجنا اليوم إلى أن نرفع شعارا جديدا: "ازرع خيرا، تَقلع شرّا؛ فالأرض أمانة، والإصلاح عبادة"؛ فلتتكاتف الأيدي – العلماء والمزارعون، الإعلام والخطباء، السلطات والأهالي – في معركة الوعي والإصلاح. لنجعل من مأساة المسكيت درسا خالدا في أن النعمة لا تدوم؛ إلا بالشكر، ولا تُحفظ إلا بالعلم، ولا تزدهر إلا بالعمل.

وفقنا الله جميعا لما يحبه ويرضاه!

ودمتم بحفظ الله ورعايته!