أسطورة العبقري المرفوضة
بقلم: حسن الكنزلي
تنتشر في وسائل الإعلام ومحتويات التنمية الذاتية قصص شهيرة؛ منها قصة عن عالم الفيزياء "ماكس بلانك"؛ تُروى بلهجة درامية وتحفيزية؛ خلاصتها: إن الشاب "بلانك" ، عندما استشار أستاذه في جامعة ميونيخ عام 1874 بشأن مستقبله في الفيزياء، تلقى نصيحة صادمة: "لا تدخل عالم الفيزياء؛ فقد اكتُشف كل شيء مهم بالفعل". ويروى أنه رد بهدوء وثقة: "لا أطمح لاختراع جديد؛ بل لفهم ما هو موجود". ثم يمضي السرد ليؤكد أن بلانك بعد سنوات قليلة هز أركان الكون؛ بإعلانه ولادة ميكانيكا الكم! فنال جائزة نوبل، بينما اندثر اسم الأستاذ المثبط.
القصة بلا شك جذابة! وتمنح دفعة معنوية! غير أن الشغف لا ينبغي أن يطغى على الحقيقة؛ فالتقدم العلمي ليس رواية بطولة فردية؛ بل هو رحلة طويلة تكتبها عقول كثيرة ومشاركات لا تنتهي!
وهنا مشكلة تكمن في أنه أولاً: لا يوجد توثيق تاريخي قطعي يثبت الحوار المتداول، كما أن الادعاء بأن الفيزياء كانت «مكتملة» في ذلك الزمن فيه مبالغة كبيرة! فقد كانت الظواهر الغامضة، كإشعاع الجسم الأسود، واضحة للجميع وتحتاج إلى تفسير. وبلانك نفسه لم يقتحم العلم بروح التمرد؛ وإنما دخل مختبره بمعادلات صارمة وهدوء عالم يحترم الشك. وما توصّل إليه لم يكن قفزة معجزة من فراغ؛ بل ثمرة تراكم معرفي شارك فيه كبار العلماء من بعده مثل أينشتاين وبور وهايزنبرغ..!
وثانيا: هذه الحكاية تبني صورة نمطية مريحة! "عبقري وحيد يحاصره المثبطون ثم ينتصر وحده!". والواقع مختلف تماما؛ إذ القمم العلمية تُصعد عليها فرق ومؤسسات وجهود طويلة؛ قد لا يُعرف أصحابها جميعا. كما أن تصوير الأستاذ باعتباره «خصما» يصبح ظلما لمعلم ربما كان حريصا على توجيه الطالب إلى مجال أكثر نضجا في تلك الفترة.
وبطبيعتنا العاطفية؛ نميل إلى محبة هذه القصص وأمثالها؛ لأنها تمنحنا وهما مريحا: أنّ النجاح معركة مع العالم! وأننا فور أن نحارب «المثبطين»! سنصنع التاريخ!
والتحفيز الحقيقي لا يقوم على الأساطير؛ بل على الفهم. ولذلك العمل العميق، الصبر العلمي، السعي المتدرج، واحترام المنهج... كلها عوامل صنعت بلانك وغيره. وما ينبغي أن نتعلمه حقا من بلانك؛ هو:
- أنه لم يتحدى أستاذه؛ بل تحدى حدود المعرفة!
- وأنّه لم يغلق أذنيه عن النقد؛ بل أنه فتح عقله للغموض!
- وأنّه لم يؤمن بنفسه فقط؛ بل آمن بقيمة السعي وراء الحقيقة؛ حتى لو لم يفهمها أحد في البداية!
وختاما؛ نقول: "المبالغات قد تُلهم لحظة؛ لكنها تزرع أوهاما تمتد طويلا!" والتاريخ العلمي حافل بقصص رائعة تستحق أن تُروى بصدق؛ لا بروح التفخيم الدرامي.
وأجمل ما في قصة بلانك أنّه لم يبحث عن البطولة؛ بل عن الفهم، فجاء النجاح من حيث لم يتوقع!
ويبقى الدرس الخالد: "العظماء لا يصنعون الأساطير عن أنفسهم؛ إنما يصنعون علما يبقى؛ حين تتساقط القصص من حوله".
ودامت سلامتكم!


