جعار حين تختنق مدنيتها بجبايات الفوضى

بقلم: حسن الكنزلي

جِعار ليست مجرد اسم على الخريطة. إنها مدينة عريقة، من أولى المدن المخططة حضريا في محافظة أبين واليمن كله. شوارعها التي رُسمت بميزان العمران، وأسواقها التي نُظمت بروح الحضارة، وموقعها بين البحر والجبال الذي جعلها بوابة اقتصادية نابضة؛ كل ذلك شكّل هوية مدينة ويُفترض أن تكون نموذجا للتمدّن المحلي.

لكن المشهد اليوم مختلف تماما! أين تلك المدينة التي عرفناها؟ كيف تحوّلت طرقها الواسعة إلى أزقة مكتظة مختنقة بالفوضى؟ أين الإدارة التي تحفظ كرامة الناس؟ أين التخطيط والخدمات والعدل؟ يقول تعالى: ﴿وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ﴾ [هود: 85]؛ فإذا غاب العدل، واستُهين بالحقوق؛ فسد العمران وضاع الإنسان.
والسلطة ـ في ديننا وقيمنا ـ تكليف؛ لا تشريف؛ فالنبي ﷺ قال: «كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته»؛ فالجباية حقّ للدولة لا يُؤخذ؛ إلا مقابل خدمة عامة تُقدّم، وأمنٍ يُصان، وتنميةٍ تُبنى.
لكن الواقع في جِعار اليوم يصرخ بغير هذا! بائع بسيط يعمل على بسطة مستأجرة يدفع يوميا بين 1500 و3000 ريال تحت مسمى “رسوم” أو “جبايات”. شهريا قد تصل إلى 90 ألف ريال! أكثر من إيجار البسطة نفسها! فأي منطق يقبل هذا؟! أهو عدلٌ أم عقوبة على الفقر؟! والسؤال الأهم!: أين هي الخدمات التي تُبرر هذا التحصيل؟ أين النظافة؟ أين الأمن؟ أين التنظيم؟ أين حماية الضعفاء؟
بل الأخطر من ذلك: تعدد “الجباة”؛ سلطة تحصل دون خدمات، وبلطجة تحمل السلاح في الأسواق تحصل دون إيصال أو قانون. وتاجر ضعيف يدفع ضريبة للسلطة، وضريبة للخوف؛ فهل المطلوب من المواطن أن يختار بين سلطةٍ تُثقله وبلطجةٍ تُرعبه؟

لقد أصبح اقتصاد الفوضى يتوسع على حساب اقتصاد التنمية. وتحوّلت الأسواق إلى ساحات صراع على المال، حتى سفكت الدماء مؤخرا في سوق القات أمام الناس؛ فهل أصبحت حياة المواطنين أرخص من حفنة ريالات؟!

الأزمة ليست أرقام جبايات فقط؛ إنها أزمة إدارة، وأمانة، وأخلاق. ومن أبرز أسبابها:
• غياب الرقابة الحكومية
• الفساد المالي والإداري
• فوضى تُترك عمدا لتُستخدم عند الحاجة
• انعدام رؤية عمرانية وتنظيمية
• تغييب صوت التجار والمجتمع
وإن تُرك الظلم دون ردع؛ فلن يتوقف عند بائع بسيط؛ بل سيتمدد كالنار في الهشيم. سيزيد الفقر والجريمة، ويتهدد الأمن، وتنهار الثقة بين المواطن والسلطة، وتضيع هوية المدينة.

ومع ذلك الأمل موجود والحل ممكن؛ وذلك من خلال:
- وقف الجبايات غير القانونية فورا
- تنظيم الأسواق والشوارع وإعادة تخطيط المشهد الحضري
- فرض رسوم عادلة مقابل خدمات حقيقية
- إنشاء أسواق منظمة للبسطات برسوم مناسبة
- جهة رسمية واحدة للتحصيل بإيصالات شفافة
- حماية التجار ومكافحة البلطجة
- رقابة مجتمعية تضمن وصول الأموال لمواردها
- إشراك التجار في القرار؛ فهم أهل السوق وأدرى بشؤونه

والمسؤولية –أيضا– جماعية:
- الخطباء والمثقفون عليهم توعية الناس
- المنظمات عليها توثيق الانتهاكات
- التجار عليهم التوحد فيما بينهم ومقاومة الابتزاز.
- الشخصيات الاجتماعية ل
عليها الإصلاح.
- والسلطة عليها العودة إلى أصلها؛ عدلٌ وأمنٌ ورعاية...

جِعار اليوم تنادي أبناءها:
- أعيدوا لي حضارتي!
- أعيدوا لي أماني!
- أعيدوا لي دولة تحميني؛ لا سلطة تُثقل ظهري!

العدل أساس العمران، وإذا عاد العدل؛ عاد الرخاء. وجِعار تستحق أن تكون كما كانت؛ مدينةً حضارية آمنة، يُحترم فيها الإنسان، وتُصان فيها الأرزاق، ويُقام فيها سوق الحياة؛ لا سوق الخوف.
ودمتم سالمين!