حضرموت لن تنكسر
في كل المراحل، كانت حضرموت الرقم الصعب، والركن الثابت في معادلة الوطن.. فمهما تبدلت الأحوال وتقلبت الموازين، تبقى هذه الأرض العريقة بإنسانها وتاريخها، حاضرةً في المشهد بوعيٍ حضاري لا يملكه كثيرون.. حضرموت لن تنكسر، لأنها ببساطة تستمد قوتها من عمقها التاريخي ومن أصالة أهلها الذين لا يرضون بالضيم ولا يقبلون الانتقاص.
لقد أثبتت الأحداث أن الاستهانة بالناس والاستعلاء عليهم لا تصنع نفوذًا، ولا تُقيم دولة، بل تعود دومًا على أصحابها بالخذلان. والتاريخ – لمن أراد أن يقرأه بعين منصفة – يُخبرنا أن الشعوب التي تُهان تُصبح يومًا ما وقودًا للثورة والتغيير .. ومن يتجاهل التاريخ ويغفل الجغرافيا، يكرر الأخطاء ذاتها التي دفعت بالأمم إلى الهاوية.. فحضرموت ليست هامشًا في خارطة الوطن، بل هي قلبه الاقتصادي والثقافي والإنساني، ومصدر التوازن في زمن الفوضى.
ولعل التجربة الأبرز التي تؤكد هذا الوعي الحضاري هو مؤتمر حضرموت الجامع، الذي شكّل علامة فارقة في تاريخ الإقليم. لم يكن ذلك الحدث مجرد لقاء سياسي أو تكتل نخبوي، بل كان مشروعًا وطنيًا جامعًا جمع كل الطيف الحضرمي تحت راية الحوار ووحدة الصف. فيه اجتمعت القبائل والعلماء والسياسيين والنخب، لا لتنازع على المصالح، بل لتتوافق على الثوابت والمبادئ التي تحفظ كرامة الإنسان وتؤسس لشراكة عادلة في إدارة الوطن.
فتجربة حضرموت في جمع الكلمة وتغليب العقل، تضعها في مصاف المناطق القادرة على أن تكون نموذجًا لبناء دولة مدنية عادلة.. فهي لم تنجرف خلف الصراعات العبثية، ولم تُفرّط في مكانتها أو في سيادتها الاجتماعية والسياسية. بل ظلت محافظةً على اتزانها، متمسكةً بخيار السلام والعقل، دون أن تتنازل عن حقوقها أو عن مكانتها.
حضرموت لا تطلب المستحيل، لكنها ترفض أن تكون متفرجًا في مسرح يُدار من خلف الستار.. فيغمط حق أهلها في أن يكونوا شركاء حقيقيين في صياغة القرار، وفي إدارة مواردهم، وفي رسم مستقبلهم. ومن يظن أن تهميش حضرموت أمرٌ ممكن، فقد جهل التاريخ وأخطأ قراءة الجغرافيا.
إن ما يميز الحضارم هو أن كرامتهم لا تُشترى، وصبرهم لا يعني ضعفًا. فهم أبناء الأرض التي أنجبت العلماء والتجار والمفكرين، وبنت بعقولهم مدنًا في المهجر وعلاقاتٍ تمتد من شرق آسيا إلى إفريقيا.. تلك الخبرة الإنسانية العميقة هي التي تمنح حضرموت قدرةً استثنائية على الصمود والبناء في آنٍ واحد.. وسوف تظل حضرموت عصيّة على الانكسار مهما اشتدت العواصف.. فالأرض التي أنجبت رجال الحكمة والاعتدال، لن تُهزم، لأنها تملك من التاريخ ما يحميها، ومن الجغرافيا ما يثبتها، ومن الإنسان ما يخلّدها.


