ثلاثية مراثي القلب: منصور بلعيدي بين الحبر والدمع

 بقلم: محفوظ كرامة

في قراءة شعرية ثانية متواصلة، أجدني أمام تجربة وجدانية فريدة، أستعرض فيها نتاجات الشاعر والصحفي القدير الأستاذ منصور بلعيدي ، الذي طالما عرفناه فارسًا في ميدان الصحافة الواقعية، يلامس قضايا المجتمع ويغوص في همومه اليومية بجرأة وصدق. غير أن هذه المرة، يأخذنا بلعيدي إلى ضفاف الشعر، حيث الحزن ينساب كالنهر، والدمع يكتب ما عجز عنه القلم في لحظات الفقد.

ثلاث قصائد جديدة يخطها الشاعر، لا كإبداع فني فحسب، بل كصرخة قلب موجوع، ومرآة لروح أنهكها الفقد، بعد أن اختطف الموت منه رفيقة دربه ونجليه الشهيدين أحمد ومحمد، في فاجعة لا تحتملها الجبال.

الاولى:
"بقايا من خطاك": مرثية الحبيبة والرفيقة

في هذه القصيدة، يفتش الشاعر في زوايا البيت عن أثر من رفيقة العمر، عن عطرها، عن سجادة صلاتها، عن ظلها الذي غاب فجأة. القصيدة تنبض بالحنين، وتفيض بالحب الذي لم يخبُ رغم الغياب:

  بقايا من خطاك
- يعز علي حين ادير عيني
افتش في المكان ولا اراكِ -

واذكر كل لحظة عشت فيها 
منعم بالمحبة في هواكِ. 

ولم أدر ولم يخطر ببالي
بان الموت يوخذ محتواكِ

ولم يستوعب الموقف فؤادي
وفاجئني سقوطك من علاكِ

ثم يمضي في وصفها بعبارات تتجاوز الرثاء إلى تمجيد الفضائل، وكأنها ملاك هبط من السماء، ثم عاد إليها:

  فلا مثلك شبيه في البرايا
ولايوجد في الدنيا سواكِ

خلقتي خالية من كل عيب
وربي بالفضائل قد حباكِ

- احال الموت ما بيني وبينك
وعقلي فيً ذهول وارتباكِ

افتش في زوايا البيت عنك
وابحث عن بقايا من خطاكِ

اعانق كل، شيئ باشتياق
اجد، فيه عبير من شذاكِ

اقبل باكياً كل الاماكن
هنا كانت تلامسها يداكِ

هنا اشيائك الحلو الجميلة
تحن وترتجي لحظة لقاكِ

هنا عطر وثوب للصلاة
وسجادة وعود من اراكِ

حياتي مالها، طعم بدونك
وعيشي مر بعدك ياملاكِ -

ولو ان الرثاء يعيد ميت
لعشت العمر كله في رثاكِ

إنها قصيدة لا تبكي فقط، بل توثق لحظة الانكسار، وتُخلّد الحضور الغائب في كل ركن من أركان البيت والروح.

وفي قصيدته الثانية
بعنوان  "آهات موجوع":
 نواح الأب المكلوم
يفتح الشاعر جراحه على مصراعيها، ويبوح بآلامه كأب فقد فلذتي كبده. لا يكتفي بالرثاء، بل يغوص في أعماق الذكرى، يبحث عن ومضة حياة في رفوف الذاكرة:
 أفتش في زوايا ذكرياتي
وأبحث في الرفوف العالياتِ

لعلّي أن أجد في أيّ رفٍّ
من التاريخ نبذةً من حياتي

يمزّقني الألم في كلّ حينٍ
وتقتلني هواجس محزناتِ

يهيم العقل في لجّة همومي
وأمشي في متاهات السُباتِ

ألملم في أسى أشلاء قلبي
تمزّقه مصائب قاتلاتِ

وأندب حظّي العاثر وقهري
وأبكي كَبكاءِ الأمهاتِ

يذكرني الهلال بنور احمد
واتذكر محمد عين ذاتي

ولا انسى العزيزة من فقدنا
واتألم بنار المحرقات

حزينٌ والأسى يعصر فؤادي
وصار الحزن وصفةً من صفاتي

وعقلي تاه في بحر المآسي
وحزني كالجبال الراسياتِ

أعيش العمر في همٍّ وغمٍّ
حياتي في الدُّنى مثل المماتِ. 

القصيدة مشبعة بصور الألم، حيث تتقاطع مشاعر الفقد مع لوعة الحنين، ويصبح الحزن هوية لصيقة بالشاعر:

  وصار الحزن وصفةً من صفاتي
  وحزني كالجبال الراسياتِ

إنها ليست مجرد كلمات، بل أنين أبٍ يكتب بدموعه، ويصرخ في وجه القدر الذي لايرحم احداً. 

اما قصيدته الثالثة بعنوان:
"آهـ يا جرحي المكابر
فتعبر عن كبرياء الألم:   
          
يحاول الشاعر في هذه القصيدة أن ينهض من تحت ركام الفقد، أن يستعيد شيئًا من صلابته، فيناجي جرحه لا ليشكو، بل ليحاوره، ويستعرض معه محطات الحب والصبر والتحدي:

راحوا احبابي عليا
آهـ ياجرحي المكابر

قد توالت بي جروحي 
جرح بعده جرح غائر 

فاض بي كيل المصاعب 
لا متى يا القلب صابر

كم تحملت المتاعب
يعلم الله السرائر

كم بنينا من خيال
ونثرنا الحب ماطر

كم تحدينا الطبيعة
كم صنعنا من مئآثر

كم زرعنا من زهور
في الحدائق بالقناطر

كم فرشنا الارض ورداً
ورسمنا آحسن مناظر

كم تحملنا المصاعب
ومشينا في الهواجر

_كم كتبنا الحب شعراً
في دواوين المشاعر
كم تمنينا ،،،،،اماني
مالها اول وآآآخر 
كم بقلبينا أعتنقنا 
بعضنا في حب طاهر
كم معاً خضنا تجارب 
دون ان نخشا المخاطر _.

وانتصرنا الف مرة
فهزمنا حظ عاثر

إنها قصيدة تعكس صراع الإنسان مع الألم، بين الانكسار والمكابرة، بين الذكرى والواقع، بين ما كان وما لن يعود.

      خاتمة:
في هذه الثلاثية الشعرية، يقدّم لنا منصور بلعيدي تجربة إنسانية نادرة، تتجاوز حدود الشعر إلى فضاء الوجدان الجمعي. 
إنها ليست مجرد مراثٍ، بل وثائق وجدانية لرحلة إنسانية قاسية، تُجسّد كيف يمكن للكلمة أن تكون مأوى للروح، وبلسماً للجراح، ومرآةً لوجع لا يُحتمل.

قصائد بلعيدي تستحق أن تُقرأ، لا فقط لجمالها الفني، بل لصدقها الإنساني، ولأنها تذكّرنا بأن الشعر، في لحظات الألم، ليس ترفًا، بل ضرورة.