حين يتحوّل الذكاء إلى فخّ، والكلمة إلى قيد

في زمنٍ تتداخل فيه الأصوات، وتتشابك فيه الصور، وتختلط فيه النوايا؛ لم يعد الخطر يأتي من سيفٍ مُشهر، ولا من عدوٍّ يقف على باب المدينة؛ بل بات كثير من الخطر يُصاغ في كلمة منمّقة، أو صورةٍ براقة، أو ابتسامة مخادعة، أو محتوى يبدو جميلا وهو يحمل في داخله سمّا شفافا لا يُرى.

لقد خلق الله الإنسان مكرّما، وأعطاه عقلا يميّز، وقلبا يُبصر، وبصيرةً تستنير بالوحي، قال ابن مسعود رضي الله عنه: «إن المؤمن يرى بنور الله». إنها رؤية تتجاوز البصر إلى البصيرة، إلى قدرةٍ على كشف المكر، وفضح الخداع، وإدراك باطن الأمور.

وعالم اليوم يجلب معه لونا جديدا من الابتلاء؛ تأثيرٌ مظلم؛ لا يوجَّه إليك بصراحة؛ بل يتسلّل إلى نفسك من حيث لا تشعر، مغلّفا بجمال خادع، أو عاطفة مزيفة، أو اهتمامٍ مصطنع.

إنه التأثير الذي لا يريد لك خيرا، ولا يهدف إلى نصحٍ أو هداية؛ بل إلى سيطرةٍ وامتلاك؛ إلى تحويل الإنسان من حرٍّ كريم إلى تابع مُسيَّر بعواطفه وخوفهواحتياجاته.

التأثير المشروع هو الذي يقوم على الرحمة والصدق؛ ولذلك كان «الدين النصيحة»؛ كلمة قالها النبي ﷺ لتكون ميزانا تُوزن به النوايا.

أما التأثير المظلم فيقوم على استغلال حاجة الإنسان؛ خوفه، وحدته، طمعه، جهله... هو التأثير الذي يجعل الإنسان أداة، لا صاحب إرادة.

وقد أصبح هذا النوع اليوم أخطر من أي سلاح؛ فهو ينتشر عبر:

– الإعلام الذي يصنع واقعا افتراضيا بلا جذور.

– المحتوى الذي يلمّع النفوس المريضة.

– العلاقات التي ظاهرها رحمة وباطنها استغلال.

– الدعايات التي تستفز العاطفة قبل العقل.

- والوجوه التي تبتسم بينما تضمر الخديعة.

ينتشر هذا التلاعب؛ لأنه يجد بيئة جاهزة، نفوسا ضعيفة، وقلوبا فارغة... وكما قال الله تعالى: ﴿وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا﴾؛ إذ يبدأ الفساد حين يتحوّل الذكاء إلى وسيلة استغلال؛ فالطمع في النفوذ والمال، والانحراف النفسي، والفراغ الروحي، والجهل بأساليب المكر... كلها أبواب يقتحمها المتلاعبون.

ومن لا يعرف كيف يُخدَع؛ سيُخدَع؛ كما قال عمر رضي الله عنه: «لستُ بخبٍّ، ولا الخبّ يخدعني».

ويتسلل المتلاعب إلى النفس من أبواب العواطف قبل العقول؛

من خوفك، من رغبتك، بالاهتمام، من شعورك بالذنب،

ثم يلعب في الواقع من حولك: – يشككك في نفسك

– يفرط في الاهتمام ثم يهينك،

– يعزلك عن أحبابك

– يطبّع الخطأ تدريجيا

– يعطيك معلومة واحدة ليخفي عشر معلومات،

– يغريك بالمدح، أو يرهبك بالصوت العالي.

وقد لخّص القرآن هذا الأسلوب في آية واحدة: ﴿فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ﴾ إنه الغازلايتينغ الفرعوني القديم!

والتأثير المظلم في حياتنا اليومية تراه في العلاقات العاطفية التي تُبنى على الابتزاز، وفي المؤسسات التي تُصنع فيها المراتب بالمكر لا بالكفاءة، وفي الإعلام الذي يبيع الوهم، وفي شبكات التواصل التي تصنع أقنعة رقمية لا علاقة لها بالواقع.

وما أكثر من يحملون اليوم ألسنة مطلية بالسكر، وقلوبا مليئة بالسم.

الإسلام لا يحارب التأثير؛ بل يهذّبه؛ يجعل التأثير رسالة لا حيلة، نورا لا ظلاما، صدقا لا استغلالا. ويكشف خطط أهل المكر في قوله تعالى: ﴿وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ﴾، ﴿سَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ﴾

ويصف المتلاعبين بأقبح الصفات: ﴿هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ﴾

إن أخطر ما يملكه الإنسان اليوم هو قلبه؛ فإذا صلح قلبه؛ نجا.

ومنهج القرآن في التحصين يقوم على:

– قوة الهوية الإيمانية ﴿وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ﴾ القلب المعلّق بالله، لا يملكه أحد.

– اليقظة الفكرية ﴿خُذُوا حِذْرَكُمْ﴾؛ الحذر من الكلمة، من الابتسامة، من الوعد؛ لا من السيف فقط.

– الصدق؛ فالصادق يرى ما لا يراه الناس. والنبي ﷺ كان أصدق الناس تأثيرًا؛ بلا خداع ولا تهويل.

– الاستعاذة من شياطين الإنس قبل الجن؛ لأن شياطين الإنس يبتسمون أولا، ثم يطعنون.

– الصحبة الصالحة؛ لأن القلب يمرض كما يمرض الجسد، ولا يداوي مرض القلب إلا قلب صادق إلى جانبه.

ونتحصن في الحياة العملية:

– بمراقبة الله في السرّ قبل العلن

– ببناء الثقة بالنفس

– بفهم العلامات المبكرة للعلاقات السامة،

– وبمعرفة أن كرامة القلب ليست للتنازل.

إن أعظم ما يواجهه الإنسان اليوم ليس سلاحا ولا خصومة ظاهرة؛ بل ذلك الأثر الخفي الذي يدخل القلوب كما يدخل الهواء؛ ذلك التأثير المظلم الذي يغير أفكار الناس، ويهز قناعاتهم، ويجعل بعضهم ينسون من هم؛ لكن الله جعل للإنسان نورا يهديه، وكتابا يحفظه، وإيمانا يحرسه؛ فمن سار بنور الله، لم تأخذه ظلمة، ومن صدق مع نفسه؛ لم يخدعه مخادع،

ومن امتلأ قلبه توكلا على ربه؛ ملك نفسه ولم يملكها أحد.

ويبقى السؤال للقارئ الكريم: إلى أي مدى أنت مالكٌ لقرارك؟ وإلى أي مدى يمكن لكلمة أو صورة أو علاقة أن تهزّك؟

ذلك هو مفتاح النجاة؛ أن تعرف نفسك قبل أن يعرفها المتلاعبون.

نجاني الله وإياك من كل تأثير سام مظلم ودمت سالما!