فخ القسوة: عندما يمنح العقابُ المجرمَ صكّ الغفران
بقلم: د. مرسي أحمد عبدالله
إن الغاية الأسمى من القضاء والقانون هي إحقاق العدالة، والعدالة في جوهرها ليست مجرد إنزال العقوبة، بل هي صيانة كرامة المجتمع ومنع الجريمة. ومع ذلك، يقع المجتمع أحياناً في فخ نفسي واجتماعي خطير عندما يتجاوز حدود العقاب القانوني إلى ممارسات انتقامية، وهي اللحظة التي يختل فيها التوازن الأخلاقي وتنقلب فيها الأدوار.
إن السلوك اللا أخلاقي مع المجرمين يحوّلهم إلى ضحايا، ويحوّل الضحايا إلى جلادين. هذه ليست مجرد عبارة فلسفية، بل هي توصيف لظاهرة اجتماعية دقيقة؛ فالمجرم الذي ارتكب أبشع الفظائع يفقد في نظر العامة صفة "الجاني" بمجرد تعرضه لتنكيل يتجاوز حدود القانون. في تلك اللحظة، لا يعود الناس يرون الجريمة التي وقعت في الماضي، بل يركزون أبصارهم على "الضحية الجديدة" التي تُنكل أمامهم الآن.
هذا التحول العميق ينبع من شعور المجتمع بالذنب إذا تجاوزت سلطته حدودها الأخلاقية. فالمجتمع السوي يمتلك "ضميراً جمعياً" يرفض الغلو في القسوة. وهذا الشعور بالذنب يُترجم فوراً إلى تعاطف مع المجرم الذي تم "التمثيل به"، محولاً إياه إلى رمز للقسوة غير المبررة بدلاً من أن يظل رمزاً للجريمة المرتكبة. هنا، وبدلاً من أن يكون المجرم عبرة لغيره، يتحول إلى "مظلوم" في الوعي الجمعي، وتضيع قيمة العقوبة الرادعة تحت أنقاض التعاطف الإنساني الفطري مع المتألم.
في الواقع، فإن التعامل غير الإنساني مع المجرمين قد ينجح في صرف النظر عن فظاعة جرائمهم الأصلية، ويحوّل التركيز بالكامل إلى فظاعة العقاب نفسه. إن القسوة المفرطة تخلق "ضجيجاً أخلاقياً" يحجب رؤية الحقيقة؛ فبدلاً من أن يسأل الناس: "ماذا فعل هذا المجرم؟"، يبدؤون بالتساؤل: "كيف يمكن لبشر أن يفعلوا هذا بإنسان؟".
إن هذا الانحراف في المشهد يشتت مسار العدالة ويقلب الأدوار الأخلاقية في نظر المتلقي. وبدلاً من أن يشعر المجتمع بالارتياح لنيل الجاني جزاءه، يخرج بشعور من الانكسار والاشمئزاز من وسيلة العقاب.
الخلاصة
إن الحفاظ على إنسانية العقاب هو حماية للضحية أولاً، وحماية لسمو العدالة ثانياً. فالعدالة التي تستخدم أدوات الجلاد لا تنتصر للحق، بل تمنح المجرم -عن غير قصد- فرصة للظهور بمظهر الضحية، وتفقد المجتمع تفوقه الأخلاقي الذي هو أساس شرعيته وقوته.


