حين تنتصر المروءة في الجاهلية وتغيب في عصرية اليوم
بقلم: منصور بلعيدي_
في مفارقة تاريخية مؤلمة، يبدو أن بعض مواقف "الجاهلية" التي سبقت الإسلام، كانت أكثر شهامة ومروءة من مواقف بعض الأنظمة والمؤسسات في عصرنا الحديث.
حادثة "الصحيفة" الشهيرة التي فرض فيها كفار قريش حصارًا اقتصاديًا واجتماعيًا على بني هاشم، فقط لأن فيهم النبي محمد ﷺ، تكشف عن لحظة إنسانية نادرة، حين انتفضت ضمائر بعض رجالات قريش ضد الظلم، رغم أنهم لم يكونوا بعد من أتباع الرسالة.
لقد استمر الحصار ثلاث سنوات، حتى كاد الجوع أن يفتك ببني هاشم، لكن المروءة لم تغب عن الجميع.
فخرج زهير بن أبي أمية، مخاطبًا أهل مكة بجرأة وشهامة:
*أنأكل الطعام ونلبس الثياب وبنو هاشمٍ هلكى لا يُباع ولا يُبتاع منهم؟ والله لا أقعد حتى تُشَقَّ هذه الصحيفة الظالمة.*
وبالفعل، تمزقت الصحيفة، وانكسر الحصار، وانتصرت الكلمة الحرة على منطق القهر.
اليوم، ونحن نعيش في زمن يُفترض أنه أكثر تحضرًا، نشهد مواقف رسمية باهتة أمام مآسٍ إنسانية تفوق في قسوتها حصار قريش. شعوب تُجوّع، ومدن تُحاصر، وأطفال يُقتلون، بينما تكتفي بعض الأنظمة بالصمت، أو تبرر، أو تساير، وكأن المروءة أصبحت ترفًا لا مكان له في حسابات السياسة.
ما الذي تغيّر؟ أهي القيم التي تآكلت؟ أم أن المصالح طغت على المبادئ؟
في الجاهلية، لم يكن هناك دستور ولا مواثيق حقوق إنسان، ومع ذلك انتفضت ضمائر حية رفضت الظلم. أما اليوم، فلدينا كل المواثيق، وكل الشعارات، لكننا نفتقد الفعل، ونفتقد الصوت الذي يصدح بالحق.
إن استدعاء التاريخ ليس من باب التمجيد الأجوف، بل من باب المقارنة التي تفضح واقعًا مأزومًا، وتدعو إلى مراجعة الذات.
فالمروءة ليست حكرًا على زمن دون آخر، لكنها تحتاج إلى رجال لا يساومون على القيم، ولا يبررون الصمت بالخوف أو الحسابات الضيقة.
في زمن تتكاثر فيه الأزمات، وتتعاظم فيه المظالم، نحتاج إلى زهير جديد، يصرخ في وجه الصمت، ويشق "صحائف" الظلم المعاصر ، ليوقظ فينا ما تبقى من إنسانية.


