حين تأتي الرحمة متأخرة
التقيت ذات يوم شابًا من شباب حارتنا، بدت عليه آثار النعمة، فلم أعرفه للوهلة الأولى، بادرني مبتسمًا:
«كيفك يا دكتور غسان؟»
أجبته: «الحمد لله يا ولدي، سامحني لم أعرفك، فالعتب على النظر».
ابتسم أكثر وقال: «أنا ابن فلان، الذي توفي قبل سنوات، كنا يومها أنا وإخوتي صغارًا».
قلت متأثرًا: «رحم الله والدك، كان رجلًا عزيزًا مكافحًا، رغم فقره».
تنهد الشاب، ثم قال عبارة هزتني من الداخل:
«تصدق يا دكتور… نحن ارتحنا بعد وفاة والدي!!!».
واصل حديثه بحرقة:
«منذ أن توفي، التف الناس حولنا، تعاطفوا معنا، وتدفقت علينا الصدقات والزكوات حتى تكدست المواد الغذائية في بيتنا، فتبرعنا بالكثير منها للأسر العفيفة في حينا، وجاء رجل كريم فبنى لنا منزلًا، بعد أن كنا نعيش في كوخ خشبي، كما حصلنا أيضًا على منزل آخر من الدولة».
ثم صمت قليلًا، وقال بصوت مكسور:
«كم تمنيت أن يعيش والدي هذه اللحظة… أن يأكل معنا حتى الشبع، وأن يسكن بيتًا فيه كهرباء وماء وكل الخدمات، كنا ننام معه في المسجد تحت المروحة، لأن كوخنا لم يكن فيه حتى مروحة كهربائية، وكنا نأكل وجبة واحدة في اليوم، واليوم نأكل أفضل الطعام، مع الفاكهة، ونتصدق بالفائض على الجيران».
نظر إلي بعينين مغرورقتين بالدموع، وسألني:
«لماذا يا دكتور يصر كثير من الناس على أن تعطى الزكاة فقط للأيتام والأرامل، ويتجاهلون الأسر العفيفة التي يعيش عائلها شظف العيش؟
هل يجب أن يموت الفقير حتى يتصدق الناس على أبنائه؟
لماذا لم يشعروا بحاجتنا ونحن نعيش في كوخ خشبي بين منازل الحي الفخمة، إلا بعد وفاة أبي؟»
قال كلماته وهو يبكي بحرقة، وما زلت إلى اليوم أشعر بسخونة دموعه ووجع عباراته.
العبرة:
هل يجب أن يموت الإنسان الفقير العفيف، حتى يشعر الأغنياء بأطفاله الأيتام!؟
تفقدوا الأسر العفيفة، تفقدوا الأقرباء والجيران والأصدقاء لعل فيهم من يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف والله إن دهاليز حياة بعضهم آلام لا يسمع أنينها إلا الله، تصدقوا وادفعوا زكاة اموالكم ولا تخشوا الفقر أبدا.
أرخ يدك بالصدقة ترخ حبال المصائب من على عاتقك وأعلم أن حاجتك إلى الصدقة أشد من حاجة من تتصدق عليه.
*د. غسان ناصر عبادي*


