عدن أبين
✍ #حسن_الكنزلي:
في أعماق التاريخ، تتلاقى أنفاس النبوة مع نبض الأرض، وتتجلى لنا حقيقة عظيمة، تتردد صداها عبر الأجيال. إنها حقيقة مكان، حقيقة هوية، حقيقة نبوءة. إنها حقيقة "عدن أبين"، المدينة التي اختارها الله لتخرج منها جموع من الأخيار الانصار.
جاء في مسند الإمام أحمد بن حنبل برقم (3079) الحديث عن ابن عباس قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:
«يخرج من عدن أبين اثنا عشر ألفا ينصرون الله ورسوله هم خير من بيني وبينهم».
لغة الحديث تحمل في طياتها دقة متناهية. الربط بين "عدن" و"أبين" ليس مجرد تعبير عن مكان، بل هو تأكيد على الانتماء، على الهوية. "عدن" ليست مجرد مدينة، بل هي قلب نابض لأبين، روح متجسدة في أرضها.
معروف نحويا -في لغة العرب- أن كلمة "عدن" -كما وردت في الحديث- مجرورة بحرف الجر السابق لها، وهو "مِنْ"، وفي نفس الوقت هي مضافة إلى كلمة "أبين" و"أبين" مجرور بالإضافة. وهو اسم علم يدل على أرض باليمن.
والمضاف في لغة العرب له أهمية بالغة، فهو يعمل على تحديد المعنى وتخصيصه، ويضيف إلى الجملة دقة ووضوحًا. كما يعبر عن العلاقات المختلفة بين الكلمات، كالتبعية أو الوصفية أو المكانية أو الزمانية.
إذن المضاف له وضائف، فهو:
- يحدد المعنى العام للكلمة التي يضاف إليها، ويجعله خاصًا بها.
- ويخصّص الشيء المضاف إليه، ويفرقه عن غيره من الأشياء المشابهة.
- ويربط الكلمات ببعضها في جملة واحدة، مما يعطيها انسجامًا وترابطًا.
- ويعبر عن العلاقات المختلفة بين الكلمات، مثل علاقة الملكية أو النسبة أو المكان أو الزمان.
ومن هنا فالعلاقة بين كلمتي "عدن" و"أبين" هي علاقة مكانية، حيث تشير إلى أن مدينة "عدن" تقع ضمن أبين. فالجملة تعبر عن الانتماء، أي أن مدينة "عدن" تنتمي إلى"أبين".
وكلمة "أبين" تخصص معنى كلمة "عدن" وتضيق دائرته، فـ"عدن" هنا ليست أية عدن، بل هي "عدن" التي تنتمي إلى "أبين". وهذا كما هو صحيح لغة، فصحيح تاريخيا، فحين نطق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالحديث؛ كانت هناك أكثر من مدينة باليمن تسمى "عدن"، فخصص عدن بأبين وحدد أن "عدن" المقصودة هي التي تقع في "أبين". وحين نطق به كانت لا تنطق هذه المدينة إلا مقرونة بأبين، فلا يقال لها إلا "عدن أبين".
وثمة كتب من كتب التراث العربي أشارت إلى نسبة "عدن" إلى "أبين". ككتاب "أسواق العرب في الجاهلية والإسلام"، الذي ذكر سوق "عدن أبين".
ولا يخفى علينا أن أهالي مدينة عدن وغيرهم منذ القدم وإلى اليوم يسمون الساحل الذي تقع عليه مدينة عدن باسم "ساحل أبين". وهو الساحل الذي طالما تغنى به الأدباء في أشعارهم!
إن مدينة "عدن" تاريخيا وجغرافيا - لا إداريا وسياسيا- أبينيه، تقع ضمن "مخلاف أبين"؛ لنص حديث رسول الله، ولتفسير لغة العرب ولإشارات كتب التراث العربي. وليست هناك أية دعوى تنسب عدن إلى منطقة أخرى. ولا يخفى علينا أن عدن هي اليوم -إداريا- محافظة مستقلة بذاتها.
فعدن أبين ليست مجرد مكان على الخريطة، بل هي مهد للأبرار، وقبلة للأنصار. هي الأرض التي ستخرج منها جموع مؤمنة ستنصر دين الله، وستدافع عن شريعته.
ومن هنا فإن الأخيار الذين يخرجون مناصرين الله ورسوله إنما يخرجون من "عدن" المعروفة اليوم لا من "أبين" كما قد يفهم البعض، ولا علم لنا بظروف وملابسات وزمان خروجهم، والاحتمالات حتما متعددة!
والله تعالى أعلم!
وأدام الله سلامتكم!