حتمية انتصار الثورات ،،
حتمية انتصار الثورات ،،
الثورة ليست صدفة تاريخية أو ترفاً اجتماعيا بل مآل طبيعي ونتيجة حتمية وهي المخرج الوحيد حين تنسدُّ كل الطرقات وتغيب كل الحلول.
إنها الانفجار الحتمي والضروري الذي يمنع المجتمعات والشعوب من الموت والاندثار.
يقول ل. ب إدوار L. P Edwards في كتابه التاريخ الطبيعي للثورة- طبعة شيكاغو 1927: ((إن المشروع الثوري يقوم بين جماعة من المثقفين الذين ينقصون من قدر الطبقة الحاكمة ويعملون على إضعافها وتقويض حكمها، وجميع هذه المدارس الثورية تجد أصول الظاهرة الثورية في الشعور بالألم الذي تحسه الطبقات الدنيا إزاء أصحاب السلطة والنفوذ)).
لا توجد أسباب محددة وقاطعة ترتبط بقيام
الثورات......فكل ثورة لها أسبابها ودوافعها التي تؤدي إلى اندلاعها ، كما لا توجد هناك معايير محددة للكيفية التي تهبُّ بها الشعوب ضد أنظمتها الحاكمة .
وبشكل عام يمكن القول بأن معظم الثورات تحدث لأسباب سياسية أكثر منها اقتصادية أو اجتماعية .... بمعنى أن الأسباب السياسية يكون لها التأثير الأكبر، حتى ولو كانت تلك الأسباب المعلنة أسبابا اقتصادية أو اجتماعية.
وفي الغالب يعود ذلك للقمع المباشر للحريات، وما يرتبط به من مصادرة لكافة جوانب التعبير عن الرأي وهيمنة الصوت الواحد للنظام.
في كتابه «بين الرشاد والتيه» تناول مالكٌ بن نبي -(ت1973)- قضايا الثورة في بعض البلدان، وبالتحديد في فصول الكتاب (الأول والثاني والرابع)، وضع فيها قواعد ونظريات للحالة الثورية، استلهمها من التجارب الثورية التي عاصرها والسابقة على عصره.
( فلسفة الثورة عند مالك بن نبي ) :
الثورة عنده من حيث الموضوع، هي «عملية تغيير» تصل الثورة من خلالها إلى أهدافها المنشودة.....
تغيير جذري لا شكلي، له أسلوب يتسم بالسرعة (ليبقى منسجمًا مع التنسيق الثوري) ( وله طبيعة تتحدد من خلال تحديد الموضوع الواجب تغييره ) وذلك ليبقى التغيير متماشيًا مع معناه الثوري .
فما الذي يجب تغييره في الحالة الثورية؟
وبما أنَّ الثورة في جوهرها هي عملية تغيير للإنسان، والتغيير مرتبط بالقاعدة الأخلاقية، فأي ثورة لن تنجح إذا لم يكن لها مجموعة من القيم، تشكل قاعدتها الصلبة، التي تنطلق منها وتلتزم بها .
إن شعباً ظل يرزح تحت نير العبودية عقوداً طوالاً من الزمن .... لابد أنَّ مدية المستبد قد نحرت وجدانه، ومعاوله قد فعلت فعلها في طبعه ،وفكره ، وخُلقه ، وكل تلك الأسقام قنابل موقوتة قابلة للإنفجار في وجه الثورة متى ما ظهرت الأيدي الخبيثة التي ستحركها .
لذلك يرى مالك بن نبي أنَّ أهم عمل ثوري هو تغيير جوهر الإنسان .
فما معنى أن تزيل مستبدًا والناس لا تزال ملوثةً برواسب الاستبداد؟!
فذلك شبيه بمن يُطفيء النار( بفيه ) ولكنَّ الجمرة الذكية لا تزال مختبئة تحت الرماد ...فقط تنتظر من ينفخ فيها فتعاود الإشتعال مرة أخرى ..
وهذا ما يفسر الانتكاسات التي تتعرض لها الثورات في مسير طريقها .
وهو ما جعل الشاعر الفيلسوف ( البردوني)
يتنبأ بظهور مثل تلك العلل ، والأسقام بعد الثورة حيث قال :
لماذا العدوُّ القصيُّ اقتربْ؟
لأنَّ القريبَ الحبيب اغتربْ
لأنَّ الفراغَ اشتهى الإِمتلاءَ
بشيءٍ فجاء سِوى المُرتَقبْ
لأنَّ المُلقّن واللَّاعبين
ونظّارةَ العرض هُم من كَتبْ
لأن (أبا لهبٍ) لم يمُتْ
وكلُّ الذي مات ضوءُ اللَّهبْ
فقام الدخان مكان الضياء
له ألف رأسٍ وألفا ذَنَبْ.
رحمك الله أيها الشاعر الفيلسوف..
وكل تلك النبوءات حصلت بعد ثورتي ( سبتمبر ، وأكتوبر ) وتجرع الشعب ويلات الاحتراب ، والإقتتال ، ومورس الظلم والقهر ، والفساد ، والإفساد في أبشع صوره ..
ذلك أنَّ تلك الجمرة الذكية التي اختبأت تحت الرماد ....خنست ، وهدأت ، وانتظرت حتى حركتها تلك الأيادي الخبيثة فعاودت الإشتعال بنار أشد مما كانت عليه .
لذلك لن تستطيع الثورة تحقيق أهدافها إذا هي لم
تغيِّر الإنسان ذاته ، إذا لم يكن لها قاعدة أخلاقية قوية تنطلق من خلالها.
ولعل من أهم القواعد الأخلاقية التي تسعى الثورة إلى تحقيقها تتجلى في : (الحرية-الكرامة-العدالة-المساواة-الإخاء)
هذه القيم إذا لم تتجسد في الحالة الثورية، إذا فشلت الثورة بغرسها في نفوس الناس......فإنها ستنتهي إلى استبدال مستبد بمستبد آخر ربما يكون أسوأ من سابقه ....وستتحول القيم إلى شعاراتٍ فارغةٍ وأحلامٍ كاذبة.
لذلك لابد للثورة أن ترعى تلك القيم ، وتعلي من شأنها، وبمقدار ما تنجح الثورة في تفعيل القيم ...
بمقدار ما كانت قدرتها على تغيير الإنسان أسرع وأكبر .
لهذا يرى مالك بن نبي " أنَّ الثورة لا تستطيع الوصول إلى أهدافها إذا هي لم تغيِّر الإنسان بطريقة لا رجعة فيها، من حيث سلوكه وأفكاره وكلماته ، وأخلاقه .
تذكرت كل تلك الخواطر والشعب اليمني يحتفل بثورتي ( سبتمبر ، وأكتوبر ) ..
هاتان الثورتان اللتان تتعرضان لنكسات عنيفة ، وضربات موجعة ...من خلالها يحاول عتاولة الدولة العميقة إعادة عقارب الساعة إلى الوراء ..
فثورة سبتمر التي ضحى من أجلها أشرف الناس ، وأنبل الناس ، وأشجع الناس ، وأفضل الناس ....حتى تم طرد الإمامة البغيضة من شمال اليمن...
اليوم يحاول نافخو النار في تلك الجمرة المختبئة تحت الرماد أن يعيدوا لهيبها لتحرق الأخضر واليابس انتقاماً من الثوار ، وإجهازاً لمنجزات الثورة .
والحال كذلك مع ثورة أكتوبر في جنوب اليمن..
فالإنجليز الذين غادروا الجنوب في الثلاثين من نوفمبر ( 1967م ) هم مثل تلك الجمرة الخبيثة المختبئة تحت الرماد .
لذلك لا يزالون ينفخون فيها متى ما دعت الحاجة إلى ذلك ، ولا يزالون يمدونها بالزيت والهواء لتعاود الاشتعال مرة أخرى .
وهذا ما يفسر النكسات التي تعرض لها جنوبنا الحبيب منذ خطوة التصحيح المشؤومة ، وما تلاها من صراعات دموية لا يزال جرحها يثعب حتى اللحظة .
لكن هيهات هيهات ...
تلك رفسات حمار مذبوح ..
أي نعم إنها موجعة ، ومؤلمة لأنها المحاولة الأخيرة ، ولكن الثوار يدركون ذلك تماماً ، وسوف يلملمون آلامهم ، ويطببون جراحاتهم ، ويستعيدون صحتهم ، وقوتهم لإطفاء تلك الحرائق التي سببتها تلك الجمرة الخبيثة .
فالثورة ولدت لتبقى ، وخلقت لتعيش ، ومدت خطاها لتنطلق ، وغرست غرسها لتثمر ، وأسست مداميكها لتعتلي ،وأرست أهم المبادئ الإنسانية
لصيانة حقوق المواطنين ، وأضاءت نورها ليبدد ظلمات الجهل ، والوهم ، والخرافة .
فعبثاً يحاول عتاولة الدولة العميقة إعادة عقارب الساعة إلى الوراء..
وإنما هي جولة من جولات الصراع ، وحلقة من حلقات التدافع البشري بين الحق والباطل ..
وبدون أدنى شك أنَّ البقاء للأصلح .
قال تعالى :
(فأما الزبد فيذهب جفاء ، وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض ،كذلك يضرب الله الأمثال )
فأهلاً ومرحباً بأعياد ثورتي ( سبتمبر ، بأكتوبر) المجيدتين..
ورحم الله البردوني حين قال:
أَفَـقـنـا على فَـجــرِ يــومٍ صَـبي
فيـا ضحـواتِ الـمُـنى إطــرَبْـي
أتـدرينَ ياشمسُ مـاذا جـرى؟
سَلَبنا الدَّجى فجَرنا المُختبي!
وكانَ النُّـعـاسُ على مُقلـتْـيـكِ
يُـوشـوِشُ ، كـاطَّـائِــر الأزْغَـبِ
وسِـرنا حشوداً تطيرُ الـدروبُ
بافـواجِ مـيـــــــلادِنا الأنـجـبِ
غـربـتُ زمـانـاً غـروبَ النـهـارِ
وعُدتُ ، يقودُ الضُّحى مَـوْكبي
أضأْنا المَدى،قبل أَنْ تستشفَّ
رؤى الفجــرِ ، اخيلـةَ الكَـوكَبِ
فـولِّى زمـانٌ ،كعِـرضِ الـبَـغـيِّ
وأشـرقَ عهـدٌ ، كقـلبِ النَّـــبي
طلعْنا نُدَلِّي الضُّحى ذاتَ يومٍ
ونـهتـفُ : ياشـمـسُ لاَتغْـرُبـي