الظاهرة الشريانية

بقلم / أبو زين ناصر الوليدي

يعيش الحاج شريان قريبا من حارتنا  وهو رجل قد تجاوز السبعين من عمره، يعمل حارسا على إحدى العمارات القريبة منا.
إذا مررت بجانبه أسلم عليه فيرد التحية بمثلها، فهو مشغول بعمله، وأنا أمضي في حياتي وليس بيني وبينه علاقة ذات بال.
وهكذا تمضي حياتي وحياة شريان ليس بيننا علاقة ولا بيننا عداوة، لا أعرف عنه تفصيلاته ولا حياته ولا يعرف عني إلا أنني أمر في سيارتي قريبا منه فلربما سلمت عليه، إذ ليس لي اي أهمية في حياته وليس له أي أهمية في حياتي، يجمع بيننا جامع الإسلام الكبير، ومثل شريان في حياتي كثر، فصاحب محطة الوقود وبائع السلطة وصاحب السوبر ورجل المرور وبائع الجرائد.
هؤلاء كلهم أعيش معهم بسلام ليس في قلبي عليهم غل ولا حقد ولا حسد ولا اشتباك وليس لهم كبير موقع في قلبي، فهم في مربع عادي من قلبي يتزاحم فيه الآلاف من الناس.
ولي هناك الكثير من الأصدقاء الذين تتفاوت مكانتهم في قلبي ووجداني فهم درجات في الحب والتقدير والثقة ، فمنهم الذي يتربع على سويداء قلبي لا أحتمل زعله ولا عتابه ولا مرضه ولا حاجته أقاسمة سعادتي وأفراحي وأنفاسي ومنهم دون ذلك في سلم قلبي حتى يقع آخرهم حيث يقع شريان ومن معه.
ومن الذين يقيمون في الدرجات العليا في قلبي صديق بادلته الحب بمثله والوداد بشكله وقاسمته الكثير من أفراحي وأتراحي، مرت على صحبتنا سنون طويلة حتى شعرت في أواخر الأيام بهمزه ولمزه وغمزه وهو يظن أن صاحبه غبي وما درى أن العشرة والمعروف جعلته يتغابى فيقابل سخريته المبطنة بضحكة غبية ورسائله المشفرة باللامبالاة حتى شعرت أن خموش إساءته تحاول المساس بجدران كرامتي، وكان لي صديق آخر لبيب فطن، أدرك ما يعانيه صديقي ومايعالج في نفسه من أوضار لم تحتملها نفسه الجاهلة، فجلس معي ذات يوم وإذا في وجهه كلام وفي عينيه تردد وفي لسانه لجلجة فأدركت ما نطقت به ملامحة فقلت لعلك تريد أن تقول كيت وكيت ، قال : نعم ، ولكني خشيت أن تحمل قولي على النميمة ورأيي على الوقيعة، فلعلك لم تفهم ما فهمت، ولم تلمح ما لمحت من تغير حال صاحبك. 
فقلت له : وهل تظن أن أبا زين غبي أو أن لسانه عيي ؟
قال : فما يصبرك عنه، فما يلمح به يفقد الحليم حلمه، والصبور صبره.
فقلت له : من أجل سابق صحبة وقديم معروف غضضت طرفي على قذاه وسحبت ذيلي على أذاه.
وقد عاقبته عقاب لو علمه لتمنى أن بطن الأرض يحويه ونيران القرض تشويه!!! 
فقال : وأي عقوبة هذه التي عاقبته بها، وأنت لا تزال تكلمه وتجالسه وتضاحكه ؟
فقلت لصديقي هذا  اصعد معي على السيارة، فمشيت من بيتي إلى السوق وفي طريقي مررت بالحارس شريان فسلمت عليه دون أن أهديء سرعة السيارة فرد علي التحية بمثلها وهو مشغول بعدادات الكهرباء يتفقدها في جدار عمارته، فقلت لصاحبي:  هذا الرجل اسمه شريان احفظ اسمه، ثم مررت على أناس، آخرين لا أعرف أسماءهم، فهذا صاحب محل المفروشات وهذا حارس الحديقة وهذا بائع الفول، لا أدري عن  تفاصيلهم ولا يعرفون اسمي، ثم قلت لصاحبي:  أتدري أي عقوبة أنزلتها بصاحبي؟ فزم شفتيه ورفع حاجبيه ثم قال : وما عسى أن تكون عقوبتك التي لم ألمسها ؟ فقلت لقد أخرجته من علياء قلبي ومدار اهتمامي، فأسكنته حيث يسكن شريان والذين معه في زحام لا يجعلني أشعر بهم.
فقد أزلته من جوالي ومن تفكيري ولم أشغل نفسي بعداوات ولا عتاب ولا ملامات وقد جاوزت الخمسين وأدركت كثيرا من معاني الحياة وأسباب السعادة والشقاء، فليعش هو حياته كما يحب بين حقده وحسده وكيده، فلم تعد تجمعنا الكثير من اللقاءات، ولأعش أنا حياتي سعيدا متسامحا شفاف النفس والروح، أربأ بقلبي أن يتكدر بدخان هم وأوساخ غم على أحد من الناس فالمساحة التي في قلبي لشريان ومن معه حدودها بحدود مساحات الخير، فليهنأ هو في زحامه، ولأحفظ أنا كرامتي وهدؤ قلبي ، وإذا جمعتنا الأقدار يوما فرماني بسهام نقصه فسأتصدى لها بابتسامات غبية حتى يغادر لقائي كما تغادر سيارة البلدية من تمر بهم في زحمة الطريق. 
 
.