رحيل حمود محروس: حكاية حرفي زنجبار الأخير وذكريات الزمن الجميل
( أبين الآن) كتب : عبدالله سالم النهدي
بقلم: عبدالله سالم النهدي
مشيئة الله قضت أن يطوي الزمن صفحاته، وتأخذ الصفحات معها أولئك الذين ملأوها بأفعالهم وأقوالهم، تاركين بصماتهم العميقة في مسار الحياة. فقد كانوا بمثابة الخطوط العريضة التي تشكلت بها تلك الصفحات، ترسم تفاصيل تاريخهم وتاريخ من حولهم. ورغم أنهم رحلوا، فإن ذكراهم تبقى محفورة في القلوب، وتستمر آثارهم في الحضور من خلال أعمالهم ومواقفهم التي خلدها الزمن. فما كتبه الزمن عنهم لا يزول، بل يظل شاهداً على حكمته وأقداره التي تعلو فوق كل شيء.
رحل اليوم عن مدينة زنجبار رجل عرفته المدينة في أحلى عصورها وأزمنتها، فقد كان جزءاً من نسيجها الاجتماعي في الزمن الجميل، زمن السبعينات والثمانينات والتسعينات. اشتهر في سوق زنجبار الدويل كأحد أهم وأبرز الحرفيين المتخصصين في صناعة جواري الجمال، تلك الوسيلة التي كانت آنذاك رائجة وتستخدم لنقل البضائع والتنقلات بشكل عام. كانت حرفته جزءاً أساسياً من حياة المدينة واقتصادها، وكان وجوده يجسد الأصالة والتراث في زمن حمل الكثير من الذكريات الجميلة والتقاليد العريقة التي شكلت هوية زنجبار.
عرفته مذ كنت صغيراً، حيث كنت أذهب في الإجازات الصيفية مع والدي - أطال الله في عمره - الذي كان يعمل هناك. كانت تربطه أواصر صداقة متينة مع أولاد عمر سالم الذيباني وأحفاده، وأيضاً مع أولاد عمر باشماخ. استمرت هذه العلاقات الوثيقة حتى رحيله، بعد أن سبقهم بالرحيل من سبق من هؤلاء الأصدقاء. كما كان للعديد من سكان السوق الدويل نفس الروابط.
عرفته دائماً مرحاً وبشوشاً، وقبل كل شيء، كان متفانياً في عمله الذي كان مصدر رزقه الأساسي. عمله كان في حرفة صناعة الجواري الخشبية، وهي العربات التي تجرها الجمال أو الحمير. كانت هذه الحرفة في أوج ازدهارها خلال السبعينات والثمانينات، واستمرت إلى حد ما خلال التسعينات قبل أن تبدأ بالاندثار بسبب ظهور العربات الحديثة التي اقتحمت المشهد تدريجياً.
غادر الحياة حمود محروس، ابن قرية الشيخ عبدالله الساحلية، الذي قضى معظم سنوات عمره في السوق الدويل بمدينة زنجبار. لحق برفاقه وخلانه الذين عاش معهم أوقاتًا طويلة بصحبة نقية مليئة بالود والتآخي. كان السوق الدويل يمثل الحياة الاقتصادية كلها في زنجبار، حيث التقى الجميع من مختلف الأطياف والأمكنة ليتاجروا ويشكلوا نسيجا اجتماعيا فريدا. وقد كانت الحياة الاجتماعية فيه نموذجًا للتآلف والتعايش، حيث تجمع أهل السوق على المودة والاحترام، يشتركون في أفراحهم وأتراحهم. رحل حمود محروس، لكن ذكراه ستظل خالدة بين من عرفوه وشاركوه تلك الأيام الجميلة في قلب زنجبار.
رحم الله حمود محروس ورحم رفاقه الذين سبقوه، وألبس ثوب الصحة والعافية على من تبقى منهم.