قصة من سذاجتي
كتب: أبو زين ناصر الوليدي
بعد أن تخرجت من الثانوية بعد الوحدة مباشرة صدر قرار بأن من كان في عائلته شخصان عسكريان فيحق له أن يحصل على إعفاء من التجنيد، وطبقا لهذا القرار بدأت في إجراءات الحصول على الإعفاء، وكنت حينها ولدا غرا ساذجا متأثرا بالكتب والروايات وبواقع ما قبل الوحدة، فاستكملت ملفي واتجهت إلى إحدى الإدارات ذات الصلة في مديرية مودية، وقدمت ملفي عند المدير المختص ليوقع على الملف ويختمه حتى انتقل إلى زنجبار لاستكمال بقية الإجراءات، ولكن كانت المفاجأة التي لم أتوقعها أن هذا المدير يرفض التوقيع والختم على الملف إلا *بخمسين ريالا* طبعا هذا المدير هو نفسه المدير الجنوبي الذي عين قبل الوحدة بسنوات والذي كان نزيها ملتزما بالقانون، وبشدة أنا رفضت أن أعطيه هذا المبلغ ليس استكثارا لهذا المبلغ وإنما رفضا لهذا المبدأ المنكوس، ودخلت معه في ملاسنة شديدة، وشرحت له واجبه نحو المجتمع وشروط توليه وظيفته ووجوده في هذا المنصب كخادم للمواطن.. إلخ. وهو يقول يا ابني لا تطول ولا تقصر، معك خمسين ريالا ختمنا لك، ما معك خل ملفك في بيتك...
وكانت هذه الصدمة الأولى التي تلقيتها من نظام ما بعد الوحدة، وأصبت بخيبة شديدة، وتألمت كثيرا، وشعرت بالخطر المحدق بالوطن بتفكيري البسيط الفطري، ولكني لم أستسلم وقررت أن أنتصر في أول مواجهة لي مع الفساد، وقلت لهذا المدير: ستوقع على ملفي وتقوم بواجبك نحوي كمواطن شئت أم أبيت.
ولكنه نفخ سيجارته وضحك وأغلق النافذة في وجهي.
وهنا اتجهت إلى مكتب مدير عام المديرية ( المأمور) وكان حينها الرجل الطيب أحمد ناصر فرج رحمه الله، فبسطت له القضية وشرحت له ما لاقيت من ذلك المدير، فأخذ ورقة وقلما وكتب توجيها صارما للمدير كي يختم على ملفي ويستكمل إجراءاتي ويحذره من هذه الظاهرة الخبيثة التي تعرض صاحبها للمسائلة القانونية والعقوبة القاسية.
وهنا شعرت بنشوة النصر وهرعت مسرعا إلى تلك الإدارة وذلك المدير حتى أكسر شوكة الفساد في أول مواجهة لي معه، وعجلت السير قبل صلاة الظهر حتى أدرك المدير قبل نهاية الدوام، ولكن للأسف واجهت التجربة الثانية فالمدير يغادر مكتبه ويغلق الإدارة قبل الدوام بوقت ليس بالقليل، ووجدت بعض الحراس فأخبروني أن المدير راح سوق القات، ولن يعود اليوم إلى المكتب.
بت تلك الليلة متشنجا متعصبا أنتظر بزوغ الفجر حتى أصرع الباطل وانتصر للنظام والقانون والعدل الذي جاءت به وحدتنا المباركة في ظل نظام جديد يقيم قيم الحق والعدل والدين بعيدا عن القيم الماركسية الشمولية، ومع خيوط الصباح الأولى تحركت من قريتي إلى مودية أحمل ملفي وتوجيهات المأمور الحاسمة والتي قد تجر المدير إياه إلى بطن الزنزانة ليلاقي جزاءه الذي يستحقه حين يؤسس للفساد ويتلقى الرشاوى.
وكانت المفاجأة الثالثة أن المدير لم يباشر عمله إلا بعد الساعة التاسعة صباحا، بينما كنت أنا جالسا أمام بوابة الإدارة من السابعة صباحا دون أن أتناول كأسا من الشاي أو قطعة من الخبز، وصل المدير أخيرا فكنت أول من يقدم له الملف مصحوبا بتوجيهات المأمور، فقلب المدير أوراقي وأخذ يقرأ ورقة المأمور وهو يبتسم وينفخ سيجارته ثم التفت إلي وقال: تعرف إيش يقول المصريون *؟ بلها واشرب ميتها،* ثم أردف قائلا : "يا ولد وفر على نفسك التعب مافيش توقيع وختم إلا بخمسين ريالا".
هل تظن أخي القاريء أن الولد العنيد الساذج ناصرا سيستسلم ويرفع الراية ؟
كلا.
فهناك عمر بن الخطاب الذي لا يظلم عنده أحد المحافظ الشمالي *(يحيى الراعي)* فقد جاءت الأخبار عنه بأنه يصلي الجمعة في الجامع مع الناس في الصف الأول، وهذه ظاهرة لم نكن نعرفها من المسؤولين في الجنوب، وجاءت الأخبار عنه بأنه في خطاباته يستشهد بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية، ويذكر الناس من أخباره ما يشرح صدور المؤمنين.
فأخذت أوراقي واستدنت مبلغا من المال واتجهت إلى زنجبار عند المحافظ، ومن زنجبار اتجهت إلى الكود حيث قيل أن المحافظ هناك، وفعلا وجدت المحافظ محاطا بحراسه ومرافقيه فتقدمت نحوه ومنعني الحراس، إلا أنه لما رأي الملف في يدي ورأى صغر سني تقدم نحوي وصافحني، فقدمت إليه شكواي مكتوبة مع ورقة المأمور وصورة من ملفي، فأخذ الأوراق يتفحصها ويهز رأسه وينظر إلي بتعجب ثم أخذ ملفي ووعدني بخير وصعد سيارته فانطلق مسرعا مع موكبه إلى زنجبار وتركني في الكود بدون ملف ولا أوراق.
فعدت إلى مودية وبقيت أياما أنتظر العقوبة القاسية التي سينزلها المحافظ بهذا المدير الفاسد، عقوبة تجعله عبرة للمعتبرين، ومرت الأيام وأنا أتلمس أخبار محافظنا المغوار إلا أن الأخبار جاءت بأن المحافظ بدأ إجراءت نقل أبقار مزرعة الدولة من زنجبار إلى مزرعته الخاصة في ذمار وأخبار أخرى عن فساد المسؤولين... وتدفق الفساد كسيل العرم والذي أغرقنا جميعا وأغرق الثورتين والوحدة واليمن، فأصبح الناس يقولون ( أنج سعد فقد هلك سعيد) .
لا أدري ما هو مصير ملفي في مكتب المحافظ يحيى الراعي ولكني أدري أن الناس التي كانت تبكي من حكم الرفاق أصبحت تترحم على أيامهم.
أما أنا فقد عالج موضوع أوراقي أحد أقاربي *الواقعيين* ثم ذهبت إلى صنعاء لدراسة الجامعة فرأيت من الفساد والفاسدين ماجعل ذلك المدير عندي من الصديقين.
فكانت تلك القطرة ( ٥٠ ريال) التي واجهتها يوما هي السيل الذي أوصلنا إلى هذه اللحظة التي أكتب فيها مقالي.
ولا زالت الحكاية مستمرة والفساد في تمدد ولكن لم نجد نوحا منا يقول: يا بني اركب معنا.
ولله الأمر من قبل ومن بعد
.