رؤيا منام قادتني إلى ابن القيم

بقلم / زين ناصر الوليدي

زحف الليل على قريتي الصغيرة(منصب) وأوى أهل القرية إلى بيوتهم البسيطة وبدأت القرية تخلد إلى النوم ملتحفة بسواد الليل، وبرزت نجوم تتلألأ تحت أديم السماء، ولم يكسر سكون الليل إلا أصوات بعض الطيور التي قررت أن تنام في سدر الوادي القريب من بيتي.

صعدت ليلتها كعادتي إلى سطح بيتي وصليت الوتر ثم استلقيت على فراشي لأستمع إلى الإذاعة حتى غلبني النوم .

لحظات فإذا حلقة علمية على سطح بيتي لعدد من الطلاب كنت أحدهم وكان يدير هذه الحلقة العلامة الألباني وكنت من المحبين له العاشقين لكتبه وأشرطته وفكره بل كنت حينها لا أكاد أخرج عن قوله في القضايا الفقهية وفي أحكام التصحيح والتضعيف، وكانت له رحمه الله سطوة على القلوب، بدأ الطلاب ينصرفون عن الشيخ في نهاية الحلقة فاقتربت منه لكي أسأله عن الكتب التي يرشدني إلى قراءتها وكنت حينها محبا للكتب مولعا بالقراءة حتى لكأنها وقود حياتي، فقال لي في المنام : هل قرأت كتاب زاد المعاد لابن القيم ؟

قلت : لا .

قال : اقرأ زاد المعاد.

استيقظت من نومي سعيا في تأويل تلك الرؤيا عمليا فاشتريت زاد المعاد نسخة شعيب الأرناؤوط المحققة، فعكفت على الزاد وشغلت به عن جميع الكتب وأخذت ألتهمه كما يلتهم الفقير الجائع الطعام الشهي حتى انهيت قراءته.( ماعدا بعض مباحث الطب النبوي) .

أقلب صفحات الكتاب وترتسم لي فيها معالم المنهاج النبوي لتصل قلبي وفكري بخطى الحبيب محمد صلوات الله عليه وهديه في كل أحواله فرأيت الحياة النبوية تتجلى حتى لكأني أتابع فلما وثائقيا عن قصة الإسلام وهدي الإسلام وأحكام الإسلام في لحظات ميلاد هذا الدين العظيم وما كان يعالجه النبي محمد صلى الله عليه وسلم في تثبيت أركانه وتوطيد سلطانه في القلوب والعقول والبلدان، وتبرز في كل ذلك شخصية ابن القيم العالم المحقق المتبع للأثر المنافح عن الهدي النبوي المقرر للأحكام، بريشة رسام ماهر يحرك ريشته على لوحة القلوب برفق وعدل وعمق وثقة، وتتزاحم مباحثه على قضايا تجادل فيها الناس، فيحاول أن يقرر فيها هدى الإسلام وحده، غير عابىء بكل قول مهما عظم قائله، ويظهر ذلك في قضايا الحج والطلاق ومثيلاتها، ومن بين سطور الكتاب وصفحاته تتسلل إلى عقلك طرق البحث والمناظرة وأساليب التحقيق العلمي، ويظهر ذلك جليا في المجلد الخامس والذي أعدت قراءته مرات.

خرجت من الكتاب معجبا بشخصية ابن القيم العالم الباحث الهاديء المحقق المدقق المتبع العابد الأواب وهذا الإعجاب قادني إلى البحث عن كتبه.

فقرأت كتاب الروح، وكتاب حادي الأرواح، وهي تشحن الروح بجرعات من الزهد والتعلق بالآخرة، ثم وقعت على أهم كتبه وهو كتاب أعلام الموقعين وعكفت عليه وكررت بعض مباحثه، وفي هذا الكتاب تجلت شخصية ابن القيم الأصولية والفكرية حتى شعرت أن هذا العملاق لو لم يؤلف إلا (الزاد والأعلام) لكفاه.

وذهبت بعدها إلى مفتاح دار السعاده وإغاثة اللهفان وشفاء العليل والصواعق المرسلة، وتوقفت مليا عند مدارج السالكين، ثم انصرفت إلى اجتماع الجيوش الاسلامية والصواعق المرسلة والداء والدواء والكلم الطيب ،وأحكام أهل الذمة وهذا الكتاب فيه مباحث قلما تجدها في غيره، ومما قرأت له تحفة الودود والطرق الحكمية وجلاء الأفهام والفوائد وروضة المحبين.

وكتب أخرى قلبتها وقرأت بعض فصولها ولم أكملها

منها:

هداية الحيارى والمنار المنيف وبدائع الفوائد.

ولابن القيم كتب أخرى لم أقرأها ولم أقترب منها واكتفيت منه بما قرأت.

وللحق فقد ترك ابن القيم في نفسي آثارا لن تمحوها السنون منها:

حب وتعظيم الرعيل الأول من السلف الصالح والتعويل على منهجهم ومذهبهم وسبيلهم.

ومنها حب العلم والتجرد المعرفي والاعتدال العلمي وطول النفس في البحث والتحرر من تقديس الرجال مع احترام مقاماتهم وتقدير جهودهم.

وعرفت من خلاله شيخ الإسلام ابن تيمية ومكانته السامقة في تاريخ الفكر الإسلامي عبر قرون الإسلام.

وشدني في ابن القيم روحه الشاعرة ونفسه الرومانسية وأسلوبه الأدبي ومزاجه العاشق حتى أني أستمعت لشعره بصوت بعض المنشدين بما في ذلك قصيدته النونية بصوت الدكتور عبد الرحمن الحمين.

رحم الله الإمام الفذ الكبير ابن قيم الجوزية وجمعنا به في جنات النعيم مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا.

ورحم الله الشيخ الألباني فقد كانت لي معه ومع كتبه قصة أخرى.