بـالـخـطـأ
بقلم/ أبو زين ناصر الوليدي
كان الاضطراب واضًحا على ملامحه وهو يقف بقامته النحيفة ويلتفت يمينًا وشمالًا يتطلع إلى الطريق بلهفة شديدة ووجه ممتقع، كيف لا يكون كذلك وهذه هي آخر لحظات له في الحياة، لم يعد له من أمل في هذه الدنيا إلا أن يودِّع أمه الوداع الأخير.
لقد تأخرت أمه كثيرًا، ولربما نفد صبر الضابط الموكل بالإشراف على تنفيذ حكم الإعدام فيأمر بالتنفيذ قبل أن يرى أمه.
هل سيفيده هذا التأخير ويمده في الحياة لحظات إضافية قد تزيد أو تنقص؟
هل تعمدت أمه ذلك التأخير ليكسب ولدها ساعة أو بعض ساعة من الحياة؟
كان الشاب (نجيب) يتطلع إلى الطريق، والكل يترقب معه: الضابط والجنود، أما طبيب السجن فقد تعب من الوقوف في الشمس، فتنحَّى في ظل شجرة وجلس وأجلس معه حقيبته التي لا تفارقه، لم يكن الجميع مستعجلين، هكذا هم الناس يتعاطفون مع المرء في لحظاته الأخيرة مهما تكن جنايته، فهو على كل حال سيموت، فلماذا يبخلون عليه بأنفاس قليلة من الحياة.
مازال (نجيب) شاخصًا ببصره نحو الطريق القادم من البوابة الجانبية، ينتابه شعور متناقض، فهو يتعجل مجيء أمه ليودعها، ويتمنى تأخرها ليكسب مزيدًا من الحياة ليتنفس شيئًا من هواء هذه المدينة التي ولد ونبت فيها.
كان ينظر إلى الباعة الجائلين الذين يدفعون عرباتهم بجانب حائط السجن الصغير من الميدان المخصص للإعدامات، لقد منحهم الله فرصة أطول للبقاء في هذه الدنيا، يسمعهم ينادون على بضائعهم غير معنيين بشاب عشريني حكم عليه بالموت بسبب شجار نشب بينه وبين جاره على مساحة صغيرة تقع بين بيتيهما.
ليت قلب الخالة (كريمة) يلين قليلًا، فقد تحجّر بعد مقتل ولدها حتى أصبح كالصخر المدبَّب، وتفجَّرت براكين غضبها ورفضت كل الشفاعات والوساطات والإغراءات، حاول التوسط عندها الكثير من الوجهاء والمسؤولين ورجال الأعمال وأهل العلم وإمام المسجد ونساء الحارة وكثير من الجيران ولكنها كل يوم تزداد رفضًا وغيظًا.
طال به الوقوف على كوم الرمال الذي سيمتد عليه، ويأتي الطبيب ليضع علامة على قلبه حيث ستخترق الرصاصة جسده فيبتلع الرمل دماءه، كان ينظر إلى الرمل فيتخيل الأخاديد التي سيخدها دمه على جوانبه، هل سيصل دمه إلى الإسفلت أم سينشفه الرمل؟
كانت الرياح تهب بكسل، وأصوات الغربان تملأ المكان، وأزيز الشاحنات يهز المكان، وبعض الجنود يجلسون على أحجار متفرقة يتناولون الشاي في علب الفول والفاصوليا.
أخذ الضابط المسؤول يقلِّب بعض الأوراق بين يديه ويتمتم للجنود ببعض الكلمات، فهم منها (نجيب) أن الوقت يضيق عليه وأمه لم تصل بعد، فرمى بنظرات استعطاف للضابط، فوقف الضابط ومشى نحوه خطوات وربت على كتفه وقال: كن مرتاحًا في لحظات الموت هذه، فلن تموت حتى تودع أمك وحتى تحضر الخالة (كريمة) أيضًا، فهي ولية الدم، لازال معنا متسع من الوقت حتى الساعة العاشرة والنصف.
رفع (نجيب) إلى الضابط عينين شاحبتين ووجهًا منهكًا، وأراد أن يشكره على لطفه وعطفه، ولكن لسانه تحجر، ولعابه نشف، وأسنانه التصقت ببعضها، وأصبح كأنه آلة مصمتة أصابها صدأ السنين، أراد أن يبتلع ريقه ولكن تجويف فمه تحول إلى كهف صخري جاف.
أخذ يتطلع إلى الطريق وهو يستعيد مشهد الاشتباك مع جاره الابن الوحيد للأرملة الخالة كريمة.
ليتني تركت تلك المساحة للخالة كريمة التي تلقتني من بطن أمي، وساندت أمي في حياتها، ونشأت وبيتها كأنه بيتي وابنها كأنه أخي، يا رباه لماذا نزغ الشيطان بيني وبينهم؟
صحيح أنهم أكثروا من التعدي علينا وأخذوا يلتهمون فناء دارنا المرة بعد الأخرى، ولكني لم أتوقع أن تلك الحديدة التي ضربت بها رأسه ستؤدي إلى موته، آه ليت الحياة تعود من جديد ونبيع بيتنا للخالة كريمة ونغادر المدينة ونعود إلى قريتنا حيث المساحات الكبيرة والمجانية.
بينما هو في أمانيه إذ رأى سواد أمه تدلف من البوابة البعيدة لتضع خطاها الثقيلة في الطريق المفضي إلى مكان الإعدام، زاغ بصره فرحًا وحسرة، كان سواد أمه في عباءتها وحجابها يهتز حتى يكاد يختفي، طلب من الضابط أن يحل وثاق يديه حتى يحتضن أمه ويودِّعها، نهض الضابط نحوه وقطع الحبل الذي رُبطَت به يداه، ثم مسح الضابط دمعات ساخنة تسللت من بين جفنيه أخفاها عن الجاني.
أما (نجيب) فقد هرع نحو سواد أمه فطوَّقها وأخذ يبكي، ولكنها كانت تحاول دفعه عنها وهو يزداد بها تشبُّثًا وبكاء مما أفقدها تماسكها فأخذت تحتضنه وتشمه وتبكي، فبكى الضابط والجنود والطبيب، ومع طول البكاء والعناق تبيَّن لنجيب أن هذه المحجَّبة ليست أمه بل هي الخالة (كريمة)، فأراد أن يخلِّص نفسه من بين يديها، ولكنها لفَّت ذراعيها حول عنقه وأخذت تبكي وتقول: لماذا قتلت أخاك يا ولدي؟ سامحك الله، سامحك الله، لقد جئت لكي أحضر إعدامك، ولكن إرادة الله غالبة، لقد هيَّجتَ كل عواطف الأمومة في وجداني، سامحك الله يا ولدي، سامحك الله، عد إلى أمك المريضة، لقد عفوت عنك.
سامحك الله، سامحك الله.
*من كتابي كريستيانا الفاتنة*