لا وجود للعبودية ...إلا أنَّها طوعية !!!
ذلك مايؤكده الكاتب الفرنسي ( إتيان دو لا بويسي) المولود في القرن السادس عشر الميلادي في كتابه ( مقالة العبودية الطوعية ) .
فرُغم أنَّه تُوفيَ في الثانية والثلاثين من عمره ، وهو لا يزال في مقتبل العمر ...
إلا أنَّه كان واحداً من أبرز الناقمين على الديكتاتورية ، والداعين إلى احترام حرية الإنسان في عصره .
لكن وَرُغم نضاله المستميت ضد الطغاة ...
إلا أنَّه في الوقت ذاته كان يرجع السبب الرئيس للعبودية إلى الإنسان ذاته .
ذلك ما يجده القاريء في ثنايا كتابه والذي يؤكد فيه أنَّ العبودية { طوعية } !!
فالطاغية لا يمكن أن يستعبد شعباً ما ، أو فرداً ما ...إلا أذا وجد لديهم ( القابلية للإستعباد ) .
وتلك هي الحقيقة المرة لمأساة العبودية !!!
إذ انَّه وبكل بساطة تُسلٌِم الشعوب الخرقاء رقابها لطاغية مجرم ... كي يطأها ، وتقدم له كرامتها كي يهينها , وتهديه حياتها كي يعبث بها ...دونما إصدار أدنى صوت أنين _ وإن كان خافتاً _ لرفض ذلك الواقع المؤلم , في صورة مزرية أشبه بحياة البهائم !!!
بل إنَّ البهائم التي تٌروٌَض تعبر عن رفضها للعبودية بين الحين والآخر ، مهما نالها من عقاب .
هكذا يروَّض الطاغية ذلك القطيع البشري حتى تسهل قيادته ، ويقدم نفسه طواعية لحضيرة العبودية ....مع أنٌَ لديهم الخيار في أن يعيشوا بحرية وكرامة , وأن يرفضوا حياة الاستعباد !!!
عندها يفقد الإنسان طبيعتة الأصلية ( أنَّه خُلِقَ حر ) ويسقط بغتة في نسيان آدميته , وكرامته , وحريته .....حتى إنه ليغدو مستحيلاً عليه أن يستيقظ مرة أخرى كي ينالها , بل يفقد ذكرى كيانه الأول, فلم يعد يفكر مجرد تفكير في ذلك , أو أن توجد لديه الرغبة في استرداد حريته , وينطفئ لديه النور حتى إنه لم يعد يرى إلا هذه الحياة البائسة , التعيسة , الذليلة التي استمرأها وفقد معها آدميته , وعزة نفسه , وكرامته..... فكانت بمثابة الملاذ الآمن بالنسبة لحياته , وكأنه إذا فارقها سَيَهْلَك .
فيا للعجب !!!
لذلك يرى الكاتب أنَّ أذى الطغيان ليس مرده إلى هيبة الطاغية نفسه, ولا بكثرة أعوانه , ولا بجبروته ...
إنما مرده الحقيقي إلى الكسل المفرط , والخمول النفسي , والعجز التام لدى كل هذا الكم الهائل من البشر الذين يستسلمون للاغراءات على يد عصابات البلاط ، فينقادون كالقطيع بكل سهولة ويسر !!
ومن هذا المنطلق ...
يستصيغ الطاغية ذلك الخنوع ، وذلك الهوان ، وذلك الاستسلام المخزي ..
فيتفنن في ابتكار وسائل الإذلال ، والتعذيب ، والإهانة ....ليخلق هالة من الخوف في نفوس القطيع حتى لا يجرؤوا أن يفكروا مجرد تفكير في الحرية ، بل ويرونها مستحيلة !!!!
وحتى يوطَّد الطاغية طغيانه يلجأ إلى استبعاد وإقصاء ذوي الكفاءات , والقدرات , والعلماء , والمرموقين في المجتمع ....
بل ربما وصل به الأمر للتخلص منهم وقتلهم أو نفيهم.
وفي المقابل يقدم سفلة القوم , وأراذل الخلق ,وشرار الناس, وعديمي الضمائر , وبائعي الأوطان ، والمطبلين والمزايدين والمشعوذين....
فيغدق عليهم من أموال الشعب بغرض استخدامهم كعصي لضرب ظهور الناس , وكأبواق لتخدير الشعوب , وسحرة لتزييف وعي المواطنين .
بمثل هكذا أساليب قذرة.... يقوم مكر الطاغية بحماية عرشه المنخور بالسوس بواسطة أولئك المنافقين وسفلة القوم , وضعفاء النفوس , وعديمي الضمائر .
كل تلك الوسائل الخسيسة تُنتج جيلاً ممسوخ الهوية ، مهزوم الإرادة ، فاقد الثقة بكل شيء حوله ، عاجزاً عن تحمل مسؤولية التغيير ....
فلا ذكريات له , ولا مشاريع , ولا آمال ولا طموحات , ولا أحلام ....
مثقل بالهموم , والكسل الناجم عن عادة العبودية المقيتة , سائر في غيَّه كالبهائم , وقد غُشَيَ على أبصارهم بهيبة السيد الظالم..... فأصبحوا مفتونين بخرافات كاذبة تحول دون تفكيرهم بحريتهم الطبيعية !!!
فيا للعار!!
كلما استعرضه الكاتب كان في القرن السادس عشر الميلادي ..
ولكن مايؤسف له اليوم أنَّنا نعيش واقع ذلك القرن ....رغم أننا في القرن الحادي والعشرين.
فطغاة اليوم يعيدون إنتاج أسلافهم في إذلال الشعوب- مع إضافة رتوش الحضارة الحديثة-.
والقطيع البشري يكرر السير الطوعي إلى حضيرة العبودية .
والمطبلون يستلهمون تجارب سابقيهم في تزييف وعي الشعوب ، ويبتكرون وسائل حديثة لتخدير الناس ، والنأي بهم عن قيمهم ، ومبادئهم ، وحريتهم .
فلا تعجب - اليوم - أن رأيت حملة الشهادات العلياء وهم يتملقون لحاكم أقل ما يقال في حقه ( إنه غبي ) .
ولا تعجب كذلك ...أن رأيت كيف يُقصى ذوو الكفاءة ، والنزاهة ، والأمانة ، ويقدم للمناصب
التافه من الناس !!!
وهذا للأسف واقع الحال على مستوى العالم العربي والاسلامي.
والمخرج من هذا المأزق ...
أن يأخذ الشرفاء من الناس على عاتقهم ، توعية الشعوب ، واستنهاض هممهم ، وإحياء روح الأمل في زوال الطغيان ، وإزالة ذلك الرماد الكثيف الذي غطى جذوة الحرية كي تعيد اشتعالها .
ولعل الخطوة الأولى لنفض غبار الذل .....
أن تتعوٌَد الشعوب قول كلمة ( لا ) .....
فهي الشرارة التي تُلقى في هشيم عرش الطاغية المتهالك ، وهي كذلك الخطوة الأولى لانطلاق مواكب الحرية ، وهي نقطة البداية لكتابة قصة الخلاص من الاستعباد ، وهي لبنة البداية لبناء صرح الحياة الكريمة .
وتذكروا دائمأ :
" إننا لم نُولد وحريتنا مُلك لنا وحسب ....
بل نحن مُطالبون بالدفاع عنها "
"أنَّ الحرية هي المقدس الزمني للبشر "
د. بولين