الصيام بين تهذيب النفس وآفات الضجر والسخط

ما أعظم هذا الشهر الكريم الذي يتجلى فيه معنى السمو الروحي، ويرتقي فيه الإنسان بنفسه عن شهواته وأهوائه، ليعيش لحظات من الصفاء والنقاء! إن الصيام ليس مجرد امتناع عن الطعام والشراب؛ بل هو مدرسةٌ عظيمةٌ تهذِّب النفس، وتعلِّمها الصبر، وتحرِّرها من قيود العادات السلبية. ومع ذلك، نجد أن البعض يحوِّلون هذه العبادة العظيمة إلى موسمٍ للضجر والتسخُّط، متناسين أن رمضان فرصةٌ للإصلاح لا ميدانٌ للشكاية والملل.

يستيقظ بعض الصائمين كل صباحٍ مثقلين بتذمُّرهم من الجوع والعطش، وكأنهم يؤدون فرضا مفروضا عليهم بغير رضا. تتبدل أحوالهم، فيصبحون سريعِي الغضب، حادِّي الطبع، يثورون لأتفه الأسباب، ويفقدون الحماس لما حولهم، وكأنما الصيام قيَّد أرواحهم بدلًا من أن يحرِّرها. يُظلم نظرهم إلى الحياة، فتغلب عليهم السوداوية والتشاؤم، فلا يرون في الشهر إلا تعبا وحرمانا، بينما ينسون كنوزه المخفية التي لا تُمنح إلا لمن أقبل عليه بقلبٍ سليم.

هذه السلوكيات ليست سوى انعكاسٍ لخللٍ أعمق؛ فمن لم يدرك الغاية الحقيقية من الصيام، لم يحسن التفاعل معه. إن ضعف التحمل النفسي، وقلة الصبر، واضطراب النوم، وسوء التغذية، كلها عوامل تؤدي إلى زيادة التوتر والانفعال. يضاف إلى ذلك أثر العادات اليومية المتراكمة، وتأثير المحيط السلبي، حيث تنعكس الشكوى الجماعية والتذمر العام على الأفراد، فتتسرب إليهم هذه الحالة دون وعي.

إن هذه الظاهرة تعكس ضعف الإرادة، وعدم القدرة على التحكم في الذات، فكأن الإنسان قد استسلم لعاداته السيئة بدلا من أن يجاهدها. كما أنها مؤشرٌ على غياب الوعي الروحي والتربوي، فلو أدرك الصائم أن كل لحظةٍ في رمضان فرصةٌ للارتقاء، لما سمح للضجر أن يسيطر عليه. وعلى المستوى الاجتماعي، يؤثر هذا السلوك السلبي في العلاقات الأسرية، فيتحول البيت إلى ساحة توتر بدلا من أن يكون واحة سكينةٍ وسلام.

لا بد من إعادة النظر في فهم الصيام؛ فهو ليس مجرد حرمان؛ بل تهذيبٌ للنفس وترويضٌ لها على الصبر والرضا. فإذا استشعر الصائم مقاصد هذه العبادة العظيمة، وجد فيها لذَّةً تفوق كل حرمان.

إن تعزيز قيمة الصبر والرضا، والتأمل في الحكمة الإلهية من الصيام، كفيلٌ بتغيير النظرة السلبية إلى إيجابية. ولعل تحسين نمط الحياة، من خلال النوم المنتظم، والتغذية الصحية، وممارسة الرياضة الخفيفة، يساهم في ضبط المزاج وتخفيف التوتر. كما أن التحكم في الأفكار والكلمات والتصرفات، والابتعاد عن المؤثرات السلبية، والانشغال بالطاعات وأعمال الخير، يجعل الصيام تجربةً روحانيةً مميزةً.

رمضان ليس زمنا للضجر والتسخط، بل هو فرصةٌ ذهبيةٌ للتغيير، ومحطةٌ يتزوَّد منها الإنسان بطاقةٍ إيمانيةٍ تدفعه نحو الأفضل. فمن أدرك ذلك، لم يجد فيه مشقة ولا عناء؛ بل رأى فيه بابا واسعا للرقيِّ والتقوى. ولن يتحقق ذلك إلا بنشر الوعي بهذه الظاهرة، وتقديم حلولٍ عمليةٍ لمواجهتها، حتى يعود الصيام إلى مقصده الأسمى، فيكون زادا للروح، وراحة للقلب، وتهذيبًا للنفس.