الفتنة نهاية بلا عزاء.. وموت بلا رجعة
في زوايا الذاكرة، حيث تتراكم الذكريات كأوراق خريف ذابلة، هناك مشاهد لا تموت، هناك ضحكات كانت تملأ المكان ثم اختفت، ووجوه كانت أقرب من نبض القلب ثم غدت سرابًا بعيدًا، وأيدٍ كانت تتشابك في الحب والود، ثم تفلتت كأنها لم تعرف يومًا معنى العناق.
إنه الحزن حين يأتي في أبشع صوره، حين لا يكون سبب الفراق موتًا محتمًا، بل موتٌ أشد قسوة.. موت الثقة، موت المودة، موت العلاقة التي كنا نظنها حصنًا لا تهزه العواصف، ثم اكتشفنا أنها مجرد أوراق هشّة، التهمتها نيران الفتنة والكذب والنميمة.
كم مرة وقفنا أمام صورٍ قديمة، نحدق في وجوه أولئك الذين كانوا يومًا أقرب إلينا من أرواحنا، ثم نسأل أنفسنا بحرقة: كيف وصلنا إلى هنا؟ كيف تحوّل الأخ إلى خصم، والصديق إلى غريب، والحبيب إلى عدو؟ كيف فرّقتنا كلمات لم نسمعها من شفاههم، بل نقلها إلينا من لا ضمير لهم، من لا يسعدون إلا حين يرون جدران الحب تتهاوى؟
كم من قلب انكسر ولم يجد من يلملمه، وكم من عين بكت حتى جفّت مآقيها، وكم من نفسٍ تجرّعت المرارة لأن أحدهم قرر أن يفرّق بين القلوب، أن يزرع الحقد حيث كان الحب، أن ينفث سمه في علاقة لم يكن له فيها إلا دور الهدم والتخريب!
ما أصعب أن تبكي بحرقة على أشخاص ما زالوا أحياء، لكنك فقدتهم دون أن تعرف كيف ولماذا! أن تبحث في دفاتر الأيام عن لحظة واحدة أخطأت فيها، فلا تجد، أن تراجع شريط الذكريات فلا تعثر إلا على المودة والوفاء، ثم تتساءل: كيف أصبحنا غرباء؟ أي لعنةٍ أصابتنا؟ أي يدٍ خبيثة امتدت بيننا فمزّقت ما كان مقدسًا؟ واصبحت نزيف روحي، جرح لا يُشفى، إحساس قاتل بأنك تعرضت للخيانة دون أن تعرف من خانك، بأنك أصبحت وحيدًا لأن أحدهم قرر أن يسرق منك أحب الناس إليك بكلمةٍ كاذبة، وشايةٍ مغرضة، فتنةٍ سوداء لم تترك خلفها إلا الرماد!
كم من شخصٍ جلس في عزلته بعد سنوات من القطيعة، أمسك هاتفه بأصابع مرتجفة، بحث عن رقمٍ كان يحفظه عن ظهر قلب، لكنه لم يجد الجرأة ليضغط على زر الاتصال! كم من أخٍ فقد أخاه، وكم من صديقٍ دفن صديقه، وكم من عاشقٍ وقف أمام قبر من أحبّه، وهو يتمزق حزنًا لأنه لم يسامحه في حياته، لأنه صدّق الكذب، لأنه لم يمنح العلاقة فرصةً أخيرة!
لكن بعد أن تُهدم الجسور، ماذا ينفع الندم؟ بعد أن تصدأ الكلمات في الحناجر، ماذا يجدي الاعتذار؟ بعد أن يرحل من نحب، كيف نعيد الزمن إلى الوراء؟
إن الإنسان الذي يزرع الفتنة، إنه مجرم، قاتلٌ لا يحمل سلاحًا، لكنه يقتل الأرواح، يدمّر العلاقات، يترك خلفه دمارًا لا يُصلحه الزمن ؛لا تسمحوا لهؤلاء أن يكونوا بينكم، لا تمنحوهم فرصةً ليكونوا سُعاة خراب في حياتكم.
قبل أن تصدّقوا ما يُقال، قبل أن تحكموا على من تحبون، قبل أن ترحلوا بلا عودة، تذكروا: هناك قلوبٌ نزفت حتى جفّت، هناك علاقاتٌ ماتت لأن أحدهم أراد لها أن تموت، وهناك دموعٌ لن تتوقف، لأن بعض الأخطاء لا يمكن تصحيحها بعد فوات الأوان.
احفظوا من تحبون، تمسكوا بهم، لا تجعلوا المسافة تتسع، لا تدعوا الشك يتسلل، لا تسمحوا لأحد أن يسرق منكم أثمن ما في الحياة: من كانوا يومًا قطعةً من أرواحكم!