كيف سقطت طرابلس الشرق عام ٥٠٢ هج

كتب: أبو زين ناصر الوليدي

هل يعيد التاريخ نفسه ؟
تعالوا حتى نرى الإجابة.
فبعد سقوط الكثير من المدن الإسلامية تحت ضربات الجيوش الصليبية الزاحفة من أوربا نحو العالم الإسلامي حاصر الغزاة إمارة طرابلس الشامية والتي كان أميرها (القاضي فخر الملك) وطال الحصار وضاق الخناق، ورغم ذلك كله صمد الطرابلسيون صمودا أسطوريا.
إلا أن سنوات الحصار الشديدة أنهكت الناس، وتسببت في خيانات بعض الوجهاء، لكن يقظة القاضي ورجاله كانت بالمرصاد لكل خيانة، فأعدم الخونة وسط معسكرات الأعداء في ظلام الليل، إلا أن بعض الناس استطاع الخروج من طرابلس إلى مدن صور وحمص ودمشق والبلدات القريبة.
فكان على القاضي الأمير أن يتخذ الخطوة الأخيرة لرفع الحصار، وهي الرحيل إلى بغداد لطلب الغوث من السلطان السلجوقي (محمد ملك شاه) والخليفة العباسي (المستظهر بالله).
فاستناب ابن عمه على إمارته ودفع للجند رواتب ستة أشهر مقدما، وخرج في خمسمائة فارس محملا بالهدايا والتحف من كل الأنواع، ولكنه عرج قبل ذلك على دمشق واستقبله صاحبها(الأتابك طغتكين) استقبالا حسنا ولانعدام الثقة بينهما آثر الإقامة خارج السور.
ثم انطلق إلى بغداد، ولقي استقبالا مهيبا، وبقي هناك في حفاوة السلطان السلجوقي، حتى جاءت اللحظة التي طلب من السلطان أن يرسل معه جيشا لفك الحصار عن طرابلس وطرد الصليبيين عنها.
أراد السلطان أن يستثمر الموقف فأمر عددا من أكابر الأمراء بالخروج معه ومعونته، ولكن بشرط المرور أولا على الموصل وانتزاعها من الأمير التركي (جاولي) ثم المسير بعد ذلك إلى طرابلس، شرح القاضي فخر الملك للسلطان أن وضع الموصل صعب ويحتاج سنوات، وإذا تأخروا عن إغاثة طرابلس ربما تسقط بيد الصلبيين خلال أشهر ، والموصل هي على كل حال بيد المسلمين ، لكن السلطان له أولوياته التي ليس منها إنقاذ طرابلس قبل ضم الموصل إلى ملكه، فلم يفكر في قضية الدوران الطويلة من بغداد إلى الموصل إلى طرابلس، وتأخر القاضي في بغداد أربعة أشهر، والحصار الصليبي يشتد على المدينة، وبدأت الحصون تتهاوى، ولذلك اجتمع وجهاء المدينة وقرروا التواصل مع الأمير (الأفضل) حاكم مصر ليضم المدينة إلى ملكه، عسى أن يحميها ويدفع عنها البلاء، فأرسل الأفضل من جهته وزيرا ليتولى المدينة، وكانت مهمته الأولى وضع يده على أسرة القاضي (فخر الملك) وأنصاره وأمواله وأمتعته الشخصية وأرسالها إلى مصر قبل أن يرسل (الأفضل) جيشا لرفع الحصار عن المدينة، وبينما كان الوزير مشغولا بنهب القاضي وتتبع أنصاره، كانت الولايات الصليبية الثلاث {القدس و أنطاكية والرها} قد شكلت جيشا ضخما موحدا للهجوم، وحضر زعماؤهم وكبار قادتهم إلى أسوار المدينة وانطلق الهجوم من البر والبحر.
أما الطرابلسيون فكانوا يراقبون الحصار بذعر شديد، لكنهم لم يفقدوا الأمل في قدوم أسطول (الأفضل) كما وعدهم حين سلموه المدينة، إلا أن الأفضل كان مشغولا بتركة القاضي، والقاضي في بغداد يقنع السلطان، والسلطان يقنع القاضي بالهجوم على الموصل أولا.
وفي عام (٥٠٢) للهجرة سقطت المدينة بعد ألفي يوم من الحصار والصمود والمقاومة فدخلتها الجيوش الصليبية ونهبتها وقتلت المقاتلة وسبت الذراري وارتكبت أبشع الجرائم وأحرقت المكتبة التي تحوي مائة ألف مجلد وبيع معظم الأهالي كعبيد، وفر من تمكن من الفرار .
وبسقوط طرابلس سقطت بيروت وصيدا، وأقام الصليبيون إمارتهم الرابعة(إمارة طرابلس) والتي استمرت ١٨٠ سنة.

.