التنمية المستدامة في الإسلام: رؤية حضارية متكاملة
في زمن تتسابق فيه الأمم نحو تحقيق التقدم والرفاهية، يبرز الإسلام برؤية متفرّدة تجمع بين المادي والروحي، بين الفرد والمجتمع، بين الحاضر والمستقبل، واضعا التنمية المستدامة في قلب مشروعه الحضاري، لا كخيار اقتصادي فحسب؛ بل كرسالة إنسانية شاملة تقوم على مقاصد الشريعة وتستهدف بناء الإنسان والعمران معا.
ليست التنمية في الإسلام حركة اقتصادية أو اجتماعية عابرة؛ بل هي أمانة شرعية ووظيفة استخلافية، غايتها حفظ الدين، والنفس، والعقل، والمال، والنسل. قال تعالى: ﴿وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا﴾ [الأعراف: 56]، فالفساد بكل أشكاله هو نقيض التنمية، والإصلاح أساسها.
هذا الفهم تجلى في سلوك النبي صلى الله عليه وسلم حين قال: «إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة، فإن استطاع أن لا يقوم حتى يغرسها فليفعل» [رواه أحمد]. إنها دعوة للاستمرارية، والعمل في وجه العدم، والتمسك بخيط الأمل حتى اللحظة الأخيرة.
في حين تنطلق التنمية الغربية غالبا من منطلقات مادية بحتة، قد تتجاهل البعد الإنساني أو الأخلاقي، يؤسس الإسلام لتنمية تقوم على العبودية لله، وتحقيق الخير الشامل. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "العدل هو جماع كل خير، والظلم هو جماع كل شر" [الفتاوى الكبرى، 6/92]، فالعدل هنا ليس مجرد شعار؛ بل شرطٌ لتحقق أي نهضة.
زمفهوم التنمية في الإسلام يقوم على عدد من المرتكزات، منها:
- الخلافة في الأرض؛ قال تعالى: ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً﴾ [البقرة: 30]، فالإنسان مستخلف لإعمار الأرض؛ لا لإفسادها أو استنزاف مواردها.
- العمل والإنتاج؛ قال تعالى: ﴿فَٱمْشُواْ فِى مَنَاكِبِهَا وَكُلُواْ مِن رِّزْقِهِ﴾ [الملك: 15]، فالعمل عبادة، والكسل مذموم. قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "لا يقعد أحدكم عن طلب الرزق..." [رواه البيهقي].
- مقاصد الشريعة؛ فحفظ الضروريات الخمس يُعد الإطار الأوسع للتنمية المتوازنة؛ فبدون حفظ العقل، لن يُبدع الإنسان، وبدون حفظ المال، تُهدر الموارد، وبدون حفظ النسل، يُفقد الامتداد. يقول الإمام الشاطبي: "إن المقاصد الضرورية هي التي لابد منها في قيام مصالح الدين والدنيا..." [الموافقات، 2/8]، ومن هنا تُبنى حضارة قائمة على التوازن بين الدين والدنيا.
- والزكاة والوقف أدوات اقتصادية تُحقق التكافل وتُفعّل العدالة الاجتماعية، وتسهم في دعم المشاريع التعليمية والصحية والاجتماعية. قال تعالى: ﴿وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ﴾ [الذاريات: 19].
- تحريم الربا والاحتكار؛ فالإسلام يرفض الأنظمة الاقتصادية التي تكرّس الاستغلال وتُهلك الفقراء. قال ﷺ: «لا يحتكر إلا خاطئ» [رواه مسلم]، وقال تعالى: ﴿وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا﴾ [البقرة: 275].
- الحفاظ على البيئة؛ فالبيئة ليست ملكا خاصا بل أمانة عامة. قال ﷺ: «ما من مسلم يغرس غرسا... إلا كان له به صدقة» [رواه البخاري]. فالتشجير والرفق بالأرض من صور الإحسان التي تُحقق التوازن البيئي.
- ترشيد الاستهلاك؛ قال تعالى: ﴿وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ﴾ [الأنعام: 141]، فالإسلام يُرسخ ثقافة المسؤولية في استخدام الموارد.
والتنمية لا تتحقق إلا في مجتمع يقوم على:
- التكافل الاجتماعي؛ قال تعالى: ﴿وَيُطْعِمُونَ ٱلطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِ مِسْكِينًۭا وَيَتِيمًۭا وَأَسِيرًۭا﴾ [الإنسان: 8]، فالعطاء ركيزة مجتمعية.
- الحقوق والحريات؛ ففي الحديث: «المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يسلمه» [رواه البخاري]. فالحقوق مصونة في ظل الإسلام، وهو ما يوفّر البيئة الآمنة للإبداع والإنتاج.
- التعليم والتربية؛ فالأسرة والمدرسة هما الحاضنة الأولى لغرس قيم التنمية؛ قال ﷺ: «كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته» [متفق عليه].
- الشورى والعدالة؛ قال تعالى: ﴿وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ﴾ [الشورى: 38]، فالحكم القائم على المشورة والعدل هو حاضنة للاستقرار والتقدم.
- رفض الاستبداد والفساد؛ قال تعالى: ﴿وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ﴾ [الأعراف: 56]، لا تنمية في ظل أنظمة تقتات على قهر الشعوب وسرقة مقدراتها.
قال ابن تيمية: "إن الله يقيم الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا يقيم الدولة الظالمة وإن كانت مسلمة"، والرسول ﷺ قال: «اللهم من ولي من أمر أمتي شيئًا فشق عليهم، فاشقق عليه...» [رواه مسلم].
- التنمية الحقيقية لا تُبنى إلا على العلم؛ قال تعالى: ﴿وَقُل رَّبِّ زِدْنِى عِلْمًۭا﴾ [طه: 114]، وقال ﷺ: «من سلك طريقا يلتمس فيه علما سهَّل الله له به طريقا إلى الجنة» [رواه مسلم].
وفي النهاية التنمية المستدامة في الإسلام ليست شعارا؛ بل مشروع متكامل يُعيد الإنسان إلى موقعه الطبيعي كخليفة في الأرض، ويُعيد للحياة معناها الحقيقي (العمل الصالح، والعدل، والإحسان).
فلنعد إلى قراءة الإسلام كمنظومة تنموية شاملة، تأخذ بيد الإنسان نحو حضارة متوازنة، تحفظ القيم وتُحقق الرفاه، وترسم طريقا مشرقا للأجيال القادمة.
ودمتم سالمين.