الإيمان عقد ميثاق بين العبد وربِّه ( 6 )
بقلم: عبدالله محمد الجفري
تحدثنا في المنشور السابق عن الابتلاء والامتحان وتعرفنا كيف سقط فيه الكثيرون ولم يسلم منهم الصحابة في عصر النبيِّ صلى الله عليه وسلم حتى كفر بعضهم وارتدوا وانشرحت صدورهم بالكفر. قال تعالى :{{ من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئنٌ بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدراً فعليهم غضب من الله ولهم عذابٌ عظيم ( 106) ذلك بأنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة وأن الله لا يهدي القوم الكافرين (107) أولئك الذين طبع الله على قلوبهم وأبصارهم , وأولئك هم الغافلون (108) لا جرم أنهم في الآخرة هم الخاسرون (109 }}[ النحل ] وإذا سألنا ما هي الابتلاءات التي ابتلاءنا بها الله في هذا العصر ؟ اقول لعل أعظم ابتلاء هو ما كان ابتلاء يتكرر طوال التاريخ البشري مع كل جيل وفي كل عصر .. ومن هذه الابتلاءات التي تبتلي به الأمَّة في كل عصر ومع كل جيل , هو وجوب الوحدة الإسلامية والاعتصام بدين الله تعالى ونبذ الخلافات بينهم , يقول تعالى : {{ واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمت الله عليكم اذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته اخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون }}[ آل عمران : 103] هذه الآية جمعت امران : الأمر بالاعتصام بدين الله , والنهي عن التفرق في الدين . وما ذلك إلا لأهميته ومكانته عند ربِّ العالمين فلا تقوم الأديان وترتقي الأوطان إلا على وحدة الأمة واعتصامها بدينها وصبرها على طاعة الله تعالى , وتعاونها على البر والتقوى وبسط التراحم والمحبة بين أهلها .
وهذا التكليف الإلهي من أعظم العبادات , التي أمرنا الله بها , وغلظ فيها , وأبان خطورتها علينا ,وعلى منهج ربَّنا وخلافتنا له في الأرض , وقد تكون ناقضة لإيماننا , فالله خلقنا مختلفين كما قال تعالى :{{ ولو شاء ربُّك لجعل الناس أمَّة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربُّك ولذلك خلقهم }}[ هود : 118 - 119 ] خلقنا في أصل خلقتنا مختلفين , في فطرتنا يجري الاختلاف بيننا . وأمرنا لنقمع هذه الفطرة الفردية الأنانية المحبة للخير لنفسها ولنمفعتها الخاصة فقط ونقيمها على منهج الله تعالى لبتم التكامل مع الاخ في الدين والوطن .. وهو من الابتلاء العظيم , ابتلانا ليمحص إيماننا وصدق اتباعنا لدينه . وطاعتنا لأمره ونهيه . فإذا عصينا نقضنا العهد والميثاق بيننا وبين الله تعالى في هذا الأمر . وسيكون هذا موضوع منشورنا التالي وسنكتفي هنا ببيان أهمية الاعتصام بالدين وعدم التفرق فيه . وبيان أن هذا الابتلاء والامتحان من ثوابت الدين ومما ابتلى به الناسَ في كل عصر وجيل وجاء به الأنبياء جميعهم قال تعالى :{{ شرع لكم من الدين ما وصى به نوح والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم إليه اللهُ يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب }}[ الشوري : 13] . ولم يترك الله ولا رسوله شيئا يمنع الاختلاف ويحثّ على الوحدة وعدم التفرق إلا بيناه لنا تبيينا . فقال تعالى :{{ يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين }}[ البقرة : 208] ويقول تعالى: {{ ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءتهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم }} ويقول تعالى :{{ ان الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء }} ويقول تعالى :{{ وأن هذه أمتكم أمة وأحدة وأنا ربكم فاعبدون }} وقال تعالى :{{ وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرّق بكم عن سبيله }}[ الأنعام : 153]
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغضب من الاختلاف : روى مسلم عن عبدالله بن عمرو قال : هجرت الى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فسمع أصوات رجلين اختلفا في آية فخرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرف في وجهه الغضب فقال : " انما اهلك الله من كان قبلكم باختلافهم في كتابهم " وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" لا تختلفوا فتختلف قلوبكم " أخرجه مسلم وأحمد وأبو داود والنسائي. واختلاف القلوب مصيبة عظيمة في حياة المؤمنين وإحباط لدينهم وخسران لآخرتهم , لأن الدين وأمر الله لن يكون هو المرجعية في موقف المسلم في حياته وعلاقاته وحكمه على الأشياء , بل سيكون ما يهواه قلبه . ويوافق رضاه هو . ومن هنا يأتي البغي بين الناس لانه تزكية للأنانية والفردية فيتم البغي بعضنا على بعض نصرة لهذه الفردية والمصلحة الخاصة قال تعالى :{{ إنَّ الدين عند الله الإسلام وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد أن جاءهم العلم بغياً بينهم ومن يكفر بآيات الله فإن الله سريع الحساب }}[ آل عمران : 19] ولا تظن إن اختلاف أهل الكتاب لم يكن عن دين كما يتوهمون . بل لبَّس عليهم الشيطان أن كلَّ فريق منهم على حق والآخر على ضلالة , وأن العداوة له والكيد والاختلاف معه هو الدين عند الله . كل فريق ينصر الله ودينه كما يتوهم وكما زينه الشيطان لكم . ونحن نفعل اليوم ما فعلوا , بغياً بيننا , فقد حذرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال :" لتتبعنَّ من كان قبلكم حذو القذة بالقذة ." وعلى كراهة الاختلاف سار الصحابة رضي الله عنهم .خالف ابن مسعود عثمان بن عفان ثنا فعل ما فعله عثمان وقال : الخلاف شر " وقمع الامام علي بن ابي طالب الأصوات التي جاءت لتخرضه على الخلاف مع أبي بكر الصديق فزجرهم زجرا ..ونهى عن الفرقة والاختلاف لان الخلاف شر ومدخل من مداخل الشيطان .
واليوم بعض الفرق الإسلامية يتفرقون على ابسط اختلاف في فتوى مثلا .. فتوى يجوز فيها الاختلاف .. فينشقون ويلعن بعضهم بعضا وهم من نفس الفرقة . ولا يسعى أحد منهم ليتوافق مع الآخر ..ومنهم من يكفر كل الفرق الإسلامية ويرى أنه الفرقة الوحيدة الناجية التي تدخل الجنة والباقون في النار . وكيف يكونون في الجنة وهم عاصون لله في ما أمرهم من الاعتصام به وما نهاهم عنه من الفرقة والانقسام والتنازع ..
فهل المعصية فيه كبيرة محبطة للعمل , ناقضة للإيمان ؟ هذا ما سنبحثه ونتفكر فيه في المنشور التالي .