حين تؤخذ لقمة العيش بالملعقة ويتهم الفقراء بالخيانة!

تحت حمى ورطوبة كريتر اللاهبة، اقتربت من بقالة صغيرة لأشتري قارورة ماء، لكن قدماي تسمرت حين رأيت امرأة عدنية في عقدها الخامس تقريباً تحمل كيساً شفافاً ثقيل المعاناة أكثر مما تحمله أيديها،  يضم بصلاً صغيراً، بطاطة وطماطة يتيمتان ، واحد بسباس أخضر، وفص ثوم وحيد. أخرجت من حقيبتها نقوداً معدودة بالكاد تكفي لشراء فتات الحياة.

صاحب البقالة يغرف لها الزيت بملعقة بحجم كف اليد، ويزن لها ملعقة من شاي الكابوس، وملعقة سكر، وأخرى من الأرز، وهكذا من صنف إلى آخر، لا يزيد ما طلبته عن ملعقتين في أفضل الأحوال، كأنها تتسوق لوجبة مؤلفة من الألم لا الطعام.

هذا المشهد يكشف بؤس شعب بأكمله، حيث كان شراء الاحتياجات بالكيلو أمراً عادياً، وكانت "الجونية" – الكيس الكبير الذي يحوي 50 كجم من الأرز أو الدقيق – تُشترى شهرياً لتكفي بيتاً عدنياً كريماً واليوم صار الكيلو ترفاً، والجونية حلماً من الماضي تُروى كقصص الأجداد.

لم تعد الحياة حياة، بل جرعة مرة تُجبر عليها الأسر العدنية يومياً.

وفي الوقت الذي يعيش فيه من نصبوا أنفسهم ولاة أمرٍ وثوار وقيادة ومحررين ، في بيوت تحيطها المزارع وتزينها المواشي، ويتناولون وجبات لا يراها المواطن العادي إلا في الصور، يأخذ العدنيون السكر بالملعقة، والزيت بالملعقة، والشاي بالملعقة، ويموتون بالصمت والخذلان.

وإذا نطق هذا المواطن، أو اشتكى أو عبر عن ألمه، اتهمته  الألسن المأجورة بأنه "عميل"، أو "مندس"، أو "مدفوع من جهات مشبوهة". هل صار الفقر خيانة؟ وهل تحول طلب لقمة العيش إلى جريمة؟!

لقد اختنق الشعب ، فلا حرية، ولا كرامة، ولا حياة مستقرة ، حتى التعبير عن الألم أصبح خطراً، فكم من ناشط وُئدت كلمته قبل أن تُكتب؟ وكم من مواطن أُرعب لأنه تجرأ على الحديث عن الراتب أو الغاز أو الانهيار؟

الشعب اليوم لا يطلب ترفاً، يريد فقط أن يأكل، أن يعود من السوق دون أن يُسلب منه شيء من كرامته، أن يرى أولاده يشبعون بدل أن يعتادوا الجوع كما يعتادون النوم.

بالملعقة... يا فسدة!

كفاكم تجويعاً، كفاكم سحقاً لأحلام البسطاء، كفاكم خداعاً باسم القضية والمستقبل ، فالوطن الذي تؤخذ فيه لقمة العيش بالملعقة لا يحتاج خطباً ولا شعارات، بل يحتاج من يضع الدواء على جرحه بدلاً من رش الوعود الكاذبة.

سيكتب التاريخ: "هُزم الجنوب لا بالسلاح، بل بالجوع، وبصمت القادة، وبملعقة بقالة!"