لحم العيد .. أمنية تناهشتها قسوة الأيام
في زمن مضى، كانت رائحة الشواء تملأ الأحياء قبل يوم العيد، وكانت البسمة تعلو وجوه الأطفال وهم يتحلقون حول موائد الأمل، يراقبون اللحم يتقلب على الجمر كما تتقلب قلوبهم شوقًا للعيد. اليوم، تغير المشهد، وبهتت الألوان، وصارت العيون تفيض بالحزن بدلاً من الفرح، لأن الناس لم تعد تشتري لحم العيد، ليس زهدًا، بل عجزًا.
الأسواق باتت تشكو، والجزارون يقفون بلا زبائن، ينظرون إلى الفراغ في محلاتهم، والبهائم تكاد تفهم أن لا أحد سيذبحها هذه المرة. لا أحد يضحّي، ولا أحد يعيد الفرحة إلى بيوت كانت تنتظر لحم الأضحية كما ينتظر العطشان قطرة ماء.
العيد يقترب، لكن الأرواح منهكة، والجيوب خاوية، والمواقد باردة. كان العيد مناسبة للكرم والتزاور والضحكات الصافية، لكنه اليوم صار مرآةً للفقر الذي تمدد وتغلغل حتى مائدة العيد.
في زوايا الحارات، تخبئ أم دموعها عن طفلها الذي يسألها: "متى نأكل لحمًا يا أمي؟" وفي الأسواق، ينظر رجل إلى اللحم معلقًا، يهمس لنفسه: "ليس لنا هذا العام نصيب." لم يعد اللحم رمزًا للوفرة، بل أصبح ترفًا بعيد المنال.
كان العيد يومًا يُنتظر بالشوق، يُستقبل بالتكبير والضحكات، ويُعاش برائحة اللحم تتصاعد من كل بيت، وتوزّع الأضاحي على الفقراء قبل الأقارب. أما اليوم، فالفرحة خافتة، مترددة، وكأنها تبحث عن بيت يحتويها فلا تجده. المواشي تُعرض أيامًا ولا تجد من يشتريها، والجزارون بأيدٍ مرتجفة وعيونٍ تترقب، لكن الزبائن قليلون، والنظرات أغلبها حسرة.
الأسعار وصلت إلى حدٍّ لا يحتمله المواطن. كيلو اللحم صار حلمًا، والأضحية أصبحت ذكرى جميلة لا يستطيع كثيرون تحقيقها. الأب الذي كان يذبح في كل عيد، يقف اليوم عاجزًا عن تلبية أبسط أمنيات أطفاله، يعود من السوق يحمل خبزًا وبعض الحاجيات البسيطة، حيث كانت يده في السابق تحمل اللحم والفرح والوعود.
أما الأم، فتقف أمام قدر فارغ، تحاول طهي ما يمكن، وطفلها يسألها: "هل سنأكل لحمًا في العيد يا أمي؟" فتخفي دمعتها خلف ابتسامة مصطنعة وتقول: "بإذن الله يا صغيري."
هذا هو حال كثير من البيوت اليوم. موائد لا تجد ما يوضع عليها، وقلوب امتلأت بالحزن لا بالفرح. الناس لم تعد تعيش العيد كما كانت، بل تمر عليه كما تمرّ على يوم عادي، لأن الظروف خنقت كل مساحة للبهجة.
لقد صار لحم العيد أمنية، وكثيرون يكتفون بالنظر إلى محلات الجزارين ثم يعودون أدراجهم، كأنهم خرجوا يتأملون لا يتسوقون. وما يزيد الألم أن الأيدي التي كانت تعطي أصبحت اليوم تنتظر، والبيوت التي كانت تذبح وتوزع، أصبحت تنتظر من يطرق بابها ببقايا أمل.
أيها العيد، كن خفيفًا على هذه القلوب التي لم تعد تحتمل المزيد. كن رحيمًا بمن ناموا جائعين، ومن ينتظرون ما لا يأتي، ومن يخفون دمعهم خلف أبواب مغلقة. فإن لم نستطع أن نذبح أضحية، فلا تجعل الأمل يُذبح فينا.