جبل عرفة واكتمال الدين ،،

بقلم د. سعيد سالم الحرباجي 

في يوم من أعظم أيام الدينا ، وفي مكان من أعظم الأماكن ، وفي حشد ضخم من المسلمين لم تعهده الجزيرة العربية ..  
أختار الله أن تُخْتَتَمَ فيه  مسيرة كفاح مع الوثنية دامت لحوالي ربع قرن من الزمان ، وأُعْلِنَ فيه اكتمال الوحي ، وإتمام النعمة ، واعتبار الإسلام هو  الدين الخاتم لجميع الرسالات ....
ذلك ما أكده ربنا سبحانه وتعالى بقوله :( اليوم أكملت لكم دينكم ، وأتممت عليكم نعمتي ، ورضيت لكم الإسلام دينأ } .

 هذه الكلمات العظيمات و التي يتحدث الله فيها عن ثوابت  إسلامية ذات أبعاد غاية في الأهمية ( تأتي ضمن سياق أية)  موضوعها التحريم  ، والتحليل  لبعض الذبائح ، ومنها ما يتعلق بالحلال والحرام زمن الإحرام ، ومنها ما يتعلق بالحديث عن النكاح ، ومنها ما يتعلق  بالطهارة والصلاة ،  ومنها ما يتعلق بالقضاء وإقامة العدل فيه ،  ومنها ما يتعلق بالحدود في السرقة وفي الخروج على الجماعة المسلمة ،  ومنها ما يتعلق بالخمر والميسر والأنصاب والأزلام  ومنها ما يتعلق بالكفارات في قتل الصيد مع الإحرام الخ ....

كل ذلك يشير إلى أنَّ شريعة الله كل لا يتجزأ ...
سواءً أكان ذلك فيما يتعلق بالتصور والاعتقاد ، أو ما يختص بالشعائر والعبادات ، أو ما يختص بالحلال والحرام ، وكذلك ما يختص بتنظيم العلاقات الاجتماعية ، والدولية ....
فمجموع ذلك كله هو ( الدين) الذي أعْلِنَ عنه على جبل عرفات أنه قد اكتمل ، وهو النعمة التي أتمها الله على المسلمين .

وهذا إعلان واضح وصريح...
 أنَّه لا فرق في الدين بين التصور والإعتقاد ، ولا فيما يختص بالشعائر والعبادات ، والمعاملات ...فمجموعها تكوَّن المنهح الرباني الذي ارتضاه ربنا سبحانه وتعالى للمسلمين ، وأنَّ التفريط في جزئية من تلك الجزئيات ( هو تفريط في الدين ) وأنَّ رفض شيء من هذا المنهج  واستبدال غيره به من صنع البشر ؛ معناه الصريح هو (رفض ألوهية الله) وإعطاء خصائص الألوهية لبعض البشر .

هكذا كتب الله لهذا الدين البقاء ، وسجل له الكمال ، وأثبت له الديمومة والخلود المطلق.

وقد يحصل أنَّ يتغلب أعداء الله على المسلمين - في فترة من الفترات - لكنهم لا يتغلبون على الدين ذاته .
ذلك لأنه محفوظ كما أخبر ربنا بقوله:
 ( إنَّا نحن نزلنا الذكر ، وإنَّا له لحافظون ) 

تجدر الإشارة هنا أنَّه ما كان لأعداء الله أن ينالوا من المسلمين إلَّا حينما  ينحرفون هم  أنفسهم عن الإسلام  ، ولا يحققونه في حياتهم ...

ومع ذلك كله ، ومع وقوع تلك  الانتكاسات التي يتأذَّون منها في فترات الضعف ...
تنبري طائفة من المسلمين لتأخذ على عاتقها تصحيح المسار ، وتصويب السير ، وإعادة ضبط البوصلة {وأحداث التأريخ شاهدة على ذلك } 


لم يكن من قبيل الصدفة أن يُخْتَتمَ تاريخ كفاح الأنبياء والمرسلين من لدن آدم عليه السلام إلى محمد ( ص) في هذا اليوم ، وفي هذا المكان ، وفي هذا الزمان ...كلَّا وحاشا ، ولكن الأمر أعمق من ذلك بكثير .

فجبل عرفات هو المكان الذي  نزل فيه سيدنا آدم حينما هبط من الجنة ، والكعبة هو أول بيت بُنَيَ لتوحيد الله في الأرض ...
لذلك أراد الله أن يكمل هذه السلسلة الطويلة من الصراع مع قوى الكفر ، ومنحرفي الفطرة على جبل عرفات.. ليطوي ذلك التأريخ  ويضمٌه في كتابه الخالد ( القرآن ) ليكون منهجأ لكل أتباع الرسل كما أثبت ذلك بقوله ( ومن يبتغي غير الإسلام ديناً ، فلن يقبل منه ) 

كما تشير حركة الزمان واختيار (موسم الحج) 
 الذي يؤدَّيه جميع اتباع المرسلين ... إلى حقيقية الإتَّباع المطلق لمنهج محمد ، والاستسلام الكامل لدينه ، والرضاء التام لشريعته .

كل ذلك يتجلى بوضح تام ، ويُترجم بصورة عملية فيما نراه ، ونشاهده ، ونتابعه اليوم
في أحداث هذه الشعيرة العظيمة ، وفي تلك الأماكن المقدسة التي تتجلى فيها قيم الإسلام 
ومبادئه في أنصع صورها ، وأبهى حللها .

أكثر من اثنين مليون مسلماً من مختلف الأجناس ، والأعراق ، والألوان ، والاعمار ، ومن جميع الطبقات الإجتماعية ( ذكور وأناث )...
الكل يرتدي لباساً واحداً ، ويهتف هتافاً واحداً ، ويتجه اتجاهاً واحداً ، ويتحرك حركة واحدة 
ويدعو بدعاء واحد ...
لكأنما هم حبات عِقد من لؤلؤ نُسِجت بإتقان!!

لذلك كان من أهم المعاني المستوحاة من  أداء فريضة الحج  ...
أهمية وحدة المسلمين ، وإجتماع كلمتهم وتحديد وجهتهم ، وتعميق أخوتهم ، وإزالة شؤاب النتوءات الاجتماعية النتنة ، واعتماد ميزان التقوى هو الأساس في التعامل { إنَّ أكرمكم عند الله أتقاكم }.

 لهذا ليس بغريب على النبي (ص) أن ينتهز هذه الفرصة في حجة الوداع ليؤكٌَد على كل تلك المبادىء ، والقيم السامية ليرسَّخها في قلوب وعقول المسلمين ، ويضع الأسس  والقواعد في تعاملهم فيما بينهم ، ومع غيرهم، وليؤكد على حرمة الدماء ، وحرمة الربا ، ومساواة الجميع في ميزان الله .

وهكذا كان جبل عرفة نقطة الإنطلاق الأولى لمسيرة والأنبياء في الأرض ، ونقطة الإلتقاء الأخيرة ، وذلك ليتسق البدء مع الختام .
انطلق نور التوحيد من جبل عرفات بآدم واختتم نوره على جبل عرفات بمحمد ( ص).