الدمس خدعة خضراء!
في صباحات اليمن؛ حين تسير بمحاذاة شارع جديد أو تمر بجوار مرفق عام حديث؛ سترى مشهدا مألوفا؛ صفوف متلاصقة من شجر الدمس مغروسة بلا تردد، وكأنها "
الخيار الأخضر الوحيد المتاح أمام البلديات والمزارعين والمشاتل.
لكن خلف هذه الكثافة النباتية الزائفة، تنمو كارثة صامتة! تهدد البيئة، البنية التحتية، والتنوع الحيوي؛ بل وحتى اقتصاد العسل اليمني الشهير.
نبات الدمس – الذي قد يكون من نوع كازورينا أو الغاف البحري (Prosopis juliflora) – ليس نباتا يمنيا أصيلا. إنه دخيلٌ غريب، استُورد ذات يوم ربما بدعوى مقاومة التصحر، ثم تمدد كحقيقة غير قابلة للنقاش؛ لكنه اليوم:
- يستنزف المياه الجوفية بجذوره العميقة
- يفسد التربة ويمنع النباتات الأخرى من النمو.
- يخدع النحل بأزهار ذات رحيق مُرّ يفسد العسل، كما ثبت بالتجربة لدى النحالين.
- يشوه البيئة الحضرية ويتسبب في كسر الأرصفة وتخريب المرافق العامة.
- يصعب اقتلاعه لاحقا؛ بسبب امتداد جذوره الأفقي والعمودي.
فأي "نبات مثالي" هذا الذي لا يُجدي ولا يُغني من البيئة ولا من الزراعة ولا حتى من الاقتصاد شيئًا؟
في ربوع اليمن؛ حيث يُنتج واحدٌ من أنقى أنواع العسل في العالم، يشكو النحالون من تأثير الدمس على جودة العسل؛ فالعسل الناتج عن رعي النحل على زهر الدمس يكون مر الطعم، داكن اللون، ضعيف القيمة الغذائية، ولا يقبل عليه السوق؛ فإذا كان هذا الشجر يُفسد إنتاجنا الوطني وسمعتنا الدولية، فما وجه الإصرار على بقائه؟!
لعل من أكبر الأدلة على خطأ المسار الحالي هو أن دولا سبقتنا إلى التجربة، وسبقتنا إلى التصحيح:
- فالسعودية أطلقت بلديات مثل بلدية الأحساء والرياض وجدة حملات لإزالة الدمس والكازورينا. ووجهت بزراعة السدر والطلح والغاف النجدي كمصادر ظل ومصدات رياح طبيعية، تلائم المناخ وتدعم الحياة الفطرية.
- والإمارات صنّفت بعض أنواع الدمس المستوردة كـ"مجتاحة". وشجعت بقوة على زراعة الغاف المحلي (رمز الدولة) والسمر والسدر. ومنعت زراعة بعض الأنواع غير الأصلية في مشاريع التشجير.
- والهند اقتلعت ملايين الأشجار لصنف من الاشجار قريب من الدمس؛ بسبب تدميره للبيئات الجافة وتهديده للتنوع البيولوجي.
- وأستراليا رغم أنه من نباتاتها الأصلية؛ إلا أنها منعتها في بعض المناطق القاحلة والمحمية، لما لها من آثار سلبية على التوازن الطبيعي خارج نطاقها الأصلي.
فبدلا من زرع "الدمس الدخيل"؛ لمَ لا نزرع ما يعبر عن بيئتنا وهويتنا ويخدم مستقبلنا؟! سواء كمصدات للرياح، أو كأشجار ظل، أو كنباتات للنحل، أو للتنسيق الحضري، او للجمال والزينة...
فيا أيها المسؤولون عن الزراعة، والتخطيط الحضري! ويا أصحاب المشاتل، ويا أيها المهندسون في البلديات، ويا مزارعون، ويا مؤسسات مجتمع مدني، ويا نحالون، ويا صنّاع القرار..!:
- أوقفوا زراعة الدمس قبل أن يُصبح لعنة بيئية يصعب علاجها.
- استبدلوه بما ينفع الأرض والناس والنحل والماء.
- كونوا على وعي، فالتشجير ليس شكلا جماليا؛ بل قرارا استراتيجيا بيئيا واقتصاديا...
نعم، نحتاج للتشجير؛ لكننا نحتاج قبل الغرس إلى فهم ما نغرسه، وأين، ولماذا؟ فما نزرعه اليوم؛ إما أن يكون ظلا مباركا لأبنائنا، أو عبئا يكبر معهم ويخنق مستقبلهم.
والدمس ليس حلا؛ بل وهمٌ أخضر؛ فهل نواصل خداع أنفسنا، أم نُصحح المسار ونقود التغيير؟
فلنقتدِ بالدول التي سبقتنا، ولنعُد إلى النباتات الأصيلة التي نبتت معنا، وكنا بها أنفع.
نسأل الله العون والتوفيق!
ودمتم سالمين!