آمال --- قصة قصيرة
كتبها/ أبو زين ناصر الوليدي
أخذ الدكتور عبد العليم الملفَّ من يد الموظفة آمال، واتكأ على كرسيه مستغربًا من النجاحات التي حققتها في مدة وجيزة.
منذ سنوات وهو يدير هذه المؤسسة الخيرية المختصة بدعم الأيتام ورعايتهم، وهو يعرف جيدًا أن مجال التسويق وإقناع المتبرعين من التجار ورجال الأعمال بأهمية رعاية المؤسسة هي أهم المجالات في المؤسسة، ولكنه لم يجد المتدرِّب المناسب للقيام بهذه المهمة، ولقد فكر مرارًا في تصفية أعمال المؤسسة وإغلاقها، أو تسليمها لوزارة الشؤون الاجتماعية.
شعر بارتياح عميق وهو يقلِّب الأوراق التي يحويها الملف.
"يا لها من رائعة"، هكذا همس الدكتور عبد العليم، لقد استطاعت في أقل من شهر واحد أن تقنع عددًا كبيرًا من المتبرعين بالتزامات شهرية وموسمية للمؤسسة.
كانت (آمال نبيل) تفرك كفَّيها حينًا وتعبث بجوالها حينًا آخر، وهي جالسة قبالة الدكتور عبد العليم.
ــ آمال، هل أنتِ متأكدة من صحة هذه الالتزامات والمواعيد؟
ــ نعم يا دكتور.
ــ عجيب!!
ــ وما هو العجيب؟
ــ العدد كبير والمبالغ ضخمة، مقارنة بالسنوات الماضية.
ــ لا أظن يا دكتور، المؤسسة تحتاج المزيد، لا بد أن نوفر الرعاية الكاملة لليتيم بحيث يشعر أنه لم يفقد والديه أو أحدهما، فليست وظيفتنا توفير الطعام والشراب والكساء والدواء لليتيم فحسب، بل لابد من تأهيله نفسيًا وعاطفيًا وعلميًا، وإكسابه الخبرات المختلفة التي تساعده على مواجهة الحياة، وتسهم في الدفع به إلى النجاح.
انتابته قشعريرة وهو يصغي إلى كلماتها التي تنبض بالصدق والإصرار، ثم قال:
ــ صدقتِ يا آمال، نريد أن نصنع لليتيم مناخًا عائليًا يُنسيه اليُتمَ والألم ويُشعِره بالأمان والطُّمأنينة.
ــ ولهذا يا دكتور أبشِّرُك أن هناك أضعافَ هؤلاء المتبرعين وعدوني بدعم المؤسسة في وقتٍ قريب، وهناك آخرون جعلتُ لهم مواعيد، وأظن أن مساعيَّ لن تخيب بإذن الله.
ــ مدهش.. مدهش.. هذا لغز يا آمال!! لغز عجيب، كيف استطعت أن تقنعي هؤلاء المتبرعين؟!
لقد حاولنا مرارًا وتكرارًا فلم نفلح إلا مع القليل، ولم يدعمنا إلا بالقليل، والغريب في الأمر أنها ليست لك خبرة مسبقة في العمل في هذا المجال، وهذه هي المرة الأولى التي تعملين في تسويق الأعمال الخيرية.
استوت آمال جالسة على كرسيها ثم التفتت إلى المدير قائلة:
"ليس هناك لغز ولا غرابة، بمجرد أن أكلم المتبرع وأعرض عليه أهمية عمله وحاجة اليتيم، أجده مباشرة يستجيب لطلبي.
ــ لكن ما فعلته أنتِ فعله قبلك كثير من الموظفين والموظفات، فلم يحققوا من النجاح عُشر ما حققتِ، أقنعيني بسببٍ وجيهٍ، ما الفرق بينك وبين من سبقك؟
ــ هناك فرقٌ واحد يا دكتور، وكان ينبغي أن تدركه أنت بنفسك.
اختنقت الكلمات في فمها، واختلطت عبراتها بعباراتها، شعر عبد العليم بالارتباك وأخذ يعتذر إليها..
ــ أنا آسف يا آمال هل أساءت كلماتي إليك؟ أرجو أن لا تفهميني خطأ.
ــ دكتور عبدالعليم...
أنا يتيمة...
أجهشت بالبكاء.
فهتف قائلًا: سامحيني يا آمال أنا أعتذر.
ــ أنا يتيمة يا دكتور... يتيمة، ذقت مرارة اليتم وعذابه، تقلَّبت على جمراته، وتجرعت آلامه. رحل أبي وأنا في السادسة من عمري، وخلّف لأمي الدموع والأحزان، كان كهفَنا الذي نأوي، إليه فانهار وتركنا في العراء، لقد كانت فجيعتنا وفجيعة أمي الشابة بموته كبيرة.
كنا نتقلب في بحبوحة من العيش، ترفرف السعادة علينا بأجنحتها، وتغمرنا الحياة بأفراحها، كانت حياتنا كلها أعياد، فاستحالت إلى مأتمٍ طويل، لم نكد نفيق منه إلا بعد سنواتٍ طوال. كنت أنتظر أبي عند الباب ساعة عودته من عمله فيستقبلني بحضنه الدافئ، ويحملني على صدره بين ذراعيه، عادةً أدمنت عليها، ففقدت ذلك الحضن وتلك الذراعين وذلك الصدر الحنون.
لم تعد أمي تغنِّي بأغنياتها الجميلة، لم أعد أسمع صوتها العذب الذي كان يُشَبِّهه أبي بصوت البلبل الصداح، استعاضت عنها بالزفرات والأنَّات في سواد الليالي، ليالي الجوع والبرد والحرمان، لم تعد أمي تسقي زهورها مع شروق الشمس بعد أن تشيّع أبي إلى الباب، بل ذبلت تلك الزهور فرميناها في أكياس القمامة، أهملت بطَّاتها التي كانت تربيها في حوش منزلنا، فجاعت البطَّات فلا ندري إلى أين هاجرت تبحث عن طعامها.
لقد تعودتُ النوم في حضن أبي وعلى فراشه، فكنت بعد موته أصرخ محتجة: لن أنام إلا على فراش أبي وفي حضنه، فكانوا يقولون لي: أبوك ذهب إلى الجنة، فأقول: دعوني أذهب مع أبي إلى الجنة لأنام هناك..
لقد أصبحنا يا دكتور نلبس المرقَّع، ونفترش ما تركه لنا أبي من الفرش، حتى تمزقت أطرافها.
حين لا تجد لنا أمي من الثياب ما تكسونا به في العيد فإنها تلهِّينا وتأخذنا إلى خارج البلدة في ظلمة الفجر؛ حتى لا نرى ثياب الأطفال وألعابهم. أما هي فإنها تقضي يومها باكية، تحاول أن تخفي عنا دموعها.
ينتابها المرض وتنهشها الأسقام فلا تذهب إلى الطبيب، بل تتداوى بالصبْر والدعاء. نحل جسمها، وضعفت قوتها، وذوى بهاؤها وجمالها، وللأسف لم يلتفت إلينا أحد، وأبينا أن نمد أيدينا إلى أي أحد. بكتْ أمي على أبي حتى ضعف بصرها ووهنت عزيمتها، والله لقد ضاقت بالحياة، ولولا أبناؤها لتمنت أن تموت، لكنها تشعر أنها تعيش لأجلنا، كنا عزاءها في الحياة، وجنتها في الدنيا.
كم مرة أقوم في الليالي الحالكة، فأسمع نحيبها وهي تخاطب أبي الراحل وتشكو إليه حالنا وتقول له: لماذا تركتنا يا (نبيل) لقد كُسر جناحنا، وهُدَّم قصرنا، وتبددت آمالنا، واسودَّ فجرنا، وتاهت أحلامنا، فيطير النوم من عينيَّ الصغيرتين، فأحتضن أمي وأرتمي على صدرها باكية فتلصقني في حضنها لتمتزج دموعنا حتى يغلبنا النوم..
يا دكتور، تأتي المدارس فيفرح بها الأطفال لأنهم يلبسون الجديد، ويشترون الجديد من الحقائب والأقلام والأدوات المدرسية، أما أنا وأخواتي فكانت أمنا تخيط لنا ثياب وحقائب السنوات السابقة، وتجمع لنا ما تبقى من أقلامنا وأدواتنا المستخدمة، فبأي عام دراسي جديد نفرح؟، كان هزال أجسامنا وسوء تغذيتنا يلفت نظر معلماتنا، فيرسلن إلى أمي رسائل تدعوها إلى العناية بصحتنا، فتعيدها إليهن مبللة بدموعها...
يا دكتور عبد الـ...
ــ أرجوكِ توقفي يا آمال، لقد قطّعتِ قلبي واستنزفتِ دمعي... الآن فهمت، نعم لقد فهمت، هناك فرق بين النائحة الثكلى والنائحة المستأجرة.
ــ يا دكتور، حينما أخاطب رجال الأعمال استحضر يتمي وحاجتي وذكريات ألمي، فتخترق حرارة عواطفي قلوبهم، فيبادرون للاستجابة لمطالبي.
صرخ الدكتور عبدالعليم في سكرتيره ليجمع له جميع الموظفين، وفي لحظات يسيرة تجمع الموظفون حول مكتب المدير فخاطبهم: أيها الزملاء لقد قررت اليوم أن أستقيل من عملي كمدير لهذه المؤسسة، وأسلم كرسي الإدارة لمن هو أجدر بها مني، إنها الأستاذة (آمال نبيل)، وأرجو أن تؤيدوا مقترحي هذا لنتخذ الإجراءات اللازمة لهذا التغيير.
نهضت آمال من كرسيها وغادرت المكان باكية....
*من كتابي كريستيانا الفاتنة*
.