التجرّد معركة تبدأ من الداخل
في عالم يضج بالأسماء، ويتصارع فيه الولاء للرايات والرموز؛ يغيب مفهوم جوهري قد يكون هو الفارق بين البناء والانهيار، بين العلو والسقوط، بين القبول والرفض... إنه التجرّد.
والتجرّد ليس تعبيرا شعريا ولا خلقا اختياريا؛ بل هو منهج حياة، وشرط قبول، وصمام أمان في الفكر والعمل والدعوة... أن تتجرّد، يعني أن تطهر نيتك من شوائب الهوى، وتنقي قصدك من علائق الذات، وتسلّم عملك كله لله، لا لنفسك ولا لجماعتك ولا لقبيلتك ولا لاسمك... قال تعالى: ﴿قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين﴾. وقال النبي ﷺ: «إنما الأعمال بالنيات». و«من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله». إذن، ليس الشأن في "العمل الظاهر"؛ بل في "القصد الباطن".
إن التجرّد أوسع بكثير من أن يُحبس في دائرة العبادات. إنه يشمل:
- الفكر: أن تقول ما تراه حقا، لا ما يرضي فصيلك أو جمهورك.
- المواقف: أن تنصف ولو من خصمك، فـ"الحق لا يُعرف بالرجال".
- الولاءات: أن لا يتقدم ولاؤك لشخص أو تيار على ولائك لله.
- العلاقات: أن تحب لله وتبغض لله؛ لا لهوى ولا مصلحة.
- العمل الجماعي: أن تخدم الفكرة؛ لا ذاتك، وأن تطيع في الحق وتعارض في الباطل.
- البحث العلمي والفكري: أن تطلب الحقيقة كما هي؛ لا كما تشتهيها، وأن تبني قناعاتك على البرهان؛ لا على الانتماء.
وحين يغيب التجرّد؛ لا يبقى للدعوة طعم، ولا للفكرة روح، ولا للحركة وزن... تذبل الدعوة، وتنهار الرسالة، وتتحول الجماعات إلى عبء، بدل أن تكون قدوة. ومن مظاهر فقدان التجرّد:
- التعصب والانغلاق: أن لا تسمع إلا نفسك، ولا تصدق إلا من يوافقك.
- تبرير الأخطاء وسقوط النقد: أن تلبس الباطل ثوب الحكمة، وتطعن في الناصح وتقدس المخطئ.
- تقديس الأشخاص والمناهج: أن تقدم الأسماء على المبادئ، والأشخاص على الحق.
- الانشغال بالشكل دون الجوهر: أن نعلي من المصطلحات وننسى المعاني، ومن الأداء ونغفل الإخلاص.
- افتراق الصفوف وتكاثر الفرق؛ حيث يُقصى المخالف ويخوّن الناصح، فتتشرذم الصفوف، وتضيع القضية. وقد قال تعالى في تصوير حال من شابهوا هذا المسار: ﴿كل حزب بما لديهم فرحون﴾ [المؤمنون: 53] ﴿ولا تكونوا من المشركين * من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعًا﴾.
لم تنتصر دعوة، ولم تفتح قلوب، ولم تثبت راية؛ إلا بتجرّد صافي، ونية خالصة؛ في بدر، وفي أحد، وفي فتح مكة، وفي الهجرة، وفي كل مفصل من حياة النبي ﷺ، كان التجرّد هو العنوان، وكان الإخلاص هو الطاقة التي تحرك القافلة. إنه التجرّد الذي جعل النبي ﷺ يهاجر تاركًا الوطن، ويصبر على الأذى، ويعفو عن من آذوه، ويخاطب ربه في الطائف: "إن لم يكن بك غضب عليّ فلا أبالي".
ونربّي أنفسنا على التجرّد:
- بمحاسبة النفس على كل نية وكل كلمة.
- بمجاهدة الهوى وترك حب الذات.
- بصحبة المخلصين المتجردين.
- بتقليب النية قبل كل عمل.
- وبالدعاء: اللهم ارزقني قلبا مخلصا متجردا؛ لا يعبد إلاك.
أيها الداعية، أيها المصلح، أيها العامل في الحقل العام..! طهر نيتك، جرّد قلبك، راجع قصدك، اسأل نفسك دائما: "لمن أعمل؟" فلا نصر مع الهوى، ولا تمكين مع حب الذات، ولا فتح مع التعلق بالأشخاص؛ بل التمكين وعد من الله للمخلصين: ﴿ولينصرن الله من ينصره إن الله قوي عزيز﴾؛ فجدّد نيتك، وحرّر ولاءك، وامضِ! فإنما تُنصر القلوب المتجردة.
ودمتم سالمين!