الاتصال بالماضي من الحاضر

كتب : حسين أحمد الكلدي 

عندما كنت أعيش في قريتي الصغيرة، اعتدت أن أذهب إلى العديد من المناطق المجاورة لحضور المناسبات السعيدة كحفلات الزواج أو مناسبات أخرى. كما كنت أحضر المباريات التي نقيمها كل ليلة على ملعبنا المتنقل، فوق تلك الأراضي التي نملكها أو يملكها جيراننا. وكان ذلك متاحًا لنا في فصل الشتاء فقط، لأن تلك الأراضي الزراعية تكون خالية من الزراعة بعد انتهاء الموسم. كان يتجمع كل أبناء القرية على تلك الأراضي لإقامة المباريات اليومية. وفي ذلك الوقت، كان لدينا فريق يمتلك كرة مصنوعة من الجلد الأصلي الإنجليزي، بداخلها بالون مطاطي قوي يُعبأ بواسطة منفاخ يدوي. وأود أن أوضح أن امتلاك مثل هذه الكرة لم يكن أمرًا سهلًا في تلك المرحلة، فقد انتقلنا من مرحلة اللاشيء إلى امتلاك شيء ثمين؛ إذ كنا قبل ذلك نلعب بكرة مصنوعة من الشرابات. ولهذا، فإن امتلاك كرة من هذا النوع الفاخر كان أمرًا يثير الحماس بشدة. ما أذكره جيدًا هو ردود أفعالنا تجاه بعضنا البعض أثناء تسجيل الأهداف، أو عند تقسيم الفريق في بداية المباراة، حيث كنا نتقاسم اللاعبين الماهرين بعد جهد جهيد من المشادات الكلامية، وكل طرف يتكهن بالفوز حسب تصوره؛ لأن الصورة لم تكن واضحة في البداية. ولكن، ما إن تبدأ الأهداف، حتى يبدأ التوتر بين الفريقين، ويشتد الحماس، وتعلو الأصوات، ثم تصبح أكثر حدة مع تبادل الأهداف. وحين يأتي المساء وتنتهي الأشواط الأولى، نلعب على عَجالة، لأن الوقت يكون ضيقًا، والأهل يبدأون بمناداة أبنائهم، فيغادر كل واحد منا إلى بيته. وأثناء تلك اللحظات، يبدأ الفريق الخاسر بالتذمر والشكوى، وقد تتطور الأمور إلى شد وجذب ووعيد، بل وقد تحدث مشكلات أحيانًا. ومع ذلك، كان كل ذلك مسليًا لنا، وأجمل ما فيه تلك البراءة التي كان يمتلكها أبناء قريتنا الجميلة.الحديث هنا عن الماضي قد لا يمنحنا أملًا مباشرًا للمستقبل، لكنه حديث ذو شجون. وعلى هذا الأساس، فإننا عندما نلامس الماضي، نصبح أكثر ميلًا لبلوغ المستقبل. ومن هذا المنطلق، فإننا في هذه الرؤية، نجلب شيئًا من الماضي إلى الحاضر، لنعرفكم على كيف كانت تلك اللحظات الأولى من طفولتنا الشقية في الريف القديم، لا الحديث. وفي هذه القصص، نضيف وجهًا إنسانيًا جميلاً تتعرفون عليه من خلال كتاباتنا، وتجاربنا، وذكرياتنا. وأنا أعلم أن شبابنا وأبناءنا اليوم يتساءلون: كيف كانت تلك الأيام؟ ومن خلال هذه القصص، أساعدهم على رؤية ذلك الزمن، وأجعلهم يعيشون تلك اللحظات بكل ما فيها من مشاعر وأحاسيس بريئة جميلة، وأجعلهم يتذوقون شغفًا كان حاضرًا رغم بساطة الإمكانات.
لقد كنا مجتهدين في دراستنا رغم قساوة الظروف وضعف الإمكانات، لكن كان لدينا عنصر الشغف، رغم أننا نعيش في أصعب وأحلك الظروف التي لا يتخيلها أحد منكم. كنا نعمل مع آبائنا وأمهاتنا في الرعي وحرث الأرض، ونشارك بفعالية وجهد. وأولئك الذين تعرفتم عليهم أو غادرونا، كانوا يعملون بجد في كل المجالات، يواجهون الصعاب، ويبذلون جهدًا إضافيًا، لأنهم هم من يشعرون بالشغف والحماسة المتقدة، وهم الذين يستمرون في العمل. وقد نتج عن ذلك الجيل الذي تربى في ظل الظروف الصعبة، شخصيات مؤثرة وقوية في المجتمع، منهم القادة، والعظماء، والدكاترة، والمهندسون، والطيارون. وهنا أود أن ألفت نظر القراء الكرام إلى أن ما يهم ليس حجم المنطقة، ولا الإمكانات التي كانت متاحة آنذاك، وإنما ما يهم هو التوجه، والهدف، والرؤية التي كان يحملها أبناء المنطقة من الرعيل الأول، من الآباء والأبناء. لقد كانت المسؤولية كبيرة على عواتقهم، وقد سلّموها إلى الجيل الجديد الذي نشأنا فيه، وكانت إنجازاتهم ملموسة في واقع الحياة.

13/8/2025