الإعلام الأخلاقي
في زمن يعلو فيه ضجيج الأخبار، وتتسابق فيه المنصات؛ لنشر كل مثير، ويصبح الحدث اتجاها قبل أن تُعرف حقيقته؛ تبرز الحاجة المُلِحّة لإعلام مختلف؛ إعلام نابع من ضمير، قائم على القيم، نقي من الشهوة والفتنة، يُسهم في البناء لا الهدم، وفي الإصلاح لا الإثارة... إنه الإعلام الأخلاقي.
فالإعلام ليس مجرد وسيلة نقل للمعلومة؛ بل هو قوّة ناعمة تصنع الأفكار، وتوجّه الأجيال، وتُهندس الرأي العام... ولهذا كان الإعلام في ميزان الإسلام مسؤولية؛ لا لهوا، وأمانة؛ لا مهنة فقط، وميدانا للصدق؛ لا للسوقية؛ قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا﴾؛ فهذه دعوة ربانية للتثبّت؛ كأصل الإعلام النزيه. وقال ﷺ: «كفى بالمرء كذبا أن يُحدّث بكل ما سمع»، وهو توجيه نبوي دقيق يُجرّم التسرّع في نشر الأخبار دون تحقق.
والإعلام الأخلاقي هو الإعلام الذي يلتزم بمنظومة قيم إنسانية وإيمانية في معالجة الأحداث، ونقل الأخبار، وصناعة المحتوى، بحيث يكون هدفه:
- نشر الحقيقة؛ لا التلاعب بها.
- إعلاء القيم؛ لا الهبوط بالذوق العام.
- تحقيق النفع؛ لا إثارة الفتن أو التربّح من الشهوات.
- نقل المعرفة؛ لا تسويق التفاهة.
- رعاية المجتمع؛ لا تمزيقه.
وهو الإعلام الذي يرى في كل متلقٍ إنسانا؛ له عقل ومشاعر؛ لا مجرد "مُشاهد" يزيد في عدد المشاهدات أو مشارك على منصات التواصل.
ولأن الإعلام اليوم - في كثير من جوانبه - خرج عن مساره، فتحوّل عند البعض إلى:
- سلاح يُشهر في وجه الحقيقة
- وسوق للفضائح والخصوصيات
- ووسيلة لتغييب العقول باسم الترفيه
- ومنصّة لترويج العنف والانحلال والتشويه الثقافي.
وما نشاهده من أثر الإعلام على أخلاق الأبناء، على صورة المرأة، على مفهوم الدين، على قضايا الأمة... كلّه يصرخ: أين الأخلاق؟
وللإعلام الأخلاقي جملة خصائص ينبغي معرفتها؛ ومنها:
- الصدق والدقة؛ فلا ينشر إلا ما تحقق منه، ولا يُسارع في النقل قبل التبيُّن.
- العدل والموضوعية؛ فلا ينحاز؛ إلا للحق، ولا يستخدم الكلمة لتشويه الخصوم.
- الستر والحياء؛ فلا يُشهّر، ولا يكشف العورات، ولا يروّج الفاحشة.
- احترام العقل؛ يقدّم محتوى راقيا، يُنمّي الفكر، ويزرع القيم.
- الحرص على المصلحة العامة؛ فلا يثير الفتن، ولا يُساهم في تمزيق النسيج الاجتماعي.
والإعلامي ليس ناقلا فحسب؛ بل هو راعٍ ومسؤول. قال ﷺ: «كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته»؛ فهو راعٍ للكلمة، مسؤول عن أثرها، محاسب أمام الله على حروفه.
ليست المسألة "كم مشاهدة حصلت؟"؛ بل "كم قيمة نُشرت؟"، ليست "هل تصدّر الترند؟"؛ بل "هل اقترب من ضمير الأمة؟".
ونصنع إعلاما أخلاقيا:
- بنشر الوعي الإعلامي لدى عامة الناس؛ ليُدركوا ما يشاهدون، ويُميزوا الغث من السمين.
- بتدريب الإعلاميين على أخلاقيات المهنة؛ لا مجرد أدوات الإلقاء والتصوير والتحرير.
- بدعم المحتوى الراقي؛ من برامج وثائقية، ومسلسلات هادفة، ومبادرات توعوية.
- بمحاسبة الإعلام المسيء بقوانين عادلة؛ تحفظ الحريات ولا تفرّط في القيم.
- بإشراك العلماء والمفكرين والتربويين في تشكيل المحتوى؛ لا تركه لأصحاب الإثارة فقط.
ختاما؛ الإعلام الأخلاقي ليس ترفا في زمن السرعة؛ بل ضرورة في زمن الفوضى، وهو صمّام الأمان لبقاء المجتمعات محافظة على هويتها وأخلاقها.
ولن يُصلح الإعلام إلا إذا عاد إلى ضميره، وتحوّلت الكلمة من وسيلة لكسب المال، إلى وسيلة لكسب رضا الله وخدمة الإنسان.
فلنكن جمهورا واعيا، ولنطالب بإعلامٍ أخلاقي، ولنشارك في نشره ودعمه! فإن الكلمة أمانة، والإعلام رسالة، والمجتمع يستحق إعلاما يُربي؛ لا يُضل، ويُبني؛ لا يهدم.
ودمتم سالمين!