الذكاء الاصطناعي.. بين التزييف والإبداع

في زمنٍ باتت فيه الكلمات تُحلب من الآلة كما يستخرج الحليب من البقرة، لم يعد غريبًا أن تجد مقالًا خاصًا يتكلم عن الحب أو السياسة أو الثقافة أو الرياضة قد كُتب بنقرة زر واحدة!!، دون أن يعصر كاتبه لبابة فكره، أو تعشم وعثاء سفره للبحث بين المراجع وأمهات الكتب عن معنى مفردة ما صادفته وأعاقت  تقدمه لإكمال مقاله. 

اليوم كثيرون من مدّعين الصحافة أو بالأصح الكتابة على المواقع الإلكترونية يقفون على هامش الوهم يهلّلون لما لا يفهمون، وينشرون كتابات لم تُكتبها أناملهم أصلًا ولا تشبههم حقيقة!!، بل طُبخت على عجل في مطابخ "الذكاء الاصطناعي"، بلا رائحة بلا نكهة وبلا روح، بعيدين كل البعد عن لذاذة وتذوق فن الكتابة.

أراد شخص أعرفه نشر مقال لصالح موقع أخباري، المقال مليء ومشحون بالمفردات المنمقة والعبارات الرنانة، كتب بلغة رصينة، "وحرفية" مطلقة، ومفردات جزلة،  استوقفتني كلمات وعبارات كثيرة حتى سألته عن مفردة  "ثالثة الأثافي"!، سألته وماهي هذه الثالثة ياترى؟!،  تبسم على خجل واحمر وجهه، قال: لي لا أعلم، قلت: ومن أين أتيت  بالمقال إذن، قال: نسخته من الذكاء الاصطناعي، وأردف وها أنا أهم بنشرها على الصفحة للموقع الفلاني!، قلت: ولماذا ذاك يا عزيزي؟! قال: حتى يقال لي (كاتب)!.

ما يؤلم حقًا ليس في استخدام الذكاء الاصطناعي الذي بات واقع لامفر منه ويستخدمه الجميع، بل طريقة استخدامه من قبل أولئك "البلداء البلهاء" ممن توهموا أنهم أصبحوا كتّابًا يشار إليهم بالبنان بسبب أن روبوتًا صاغ لهم جمل واعد لهم تقريرًا جاهز للنشر، وهم في حقيقة الأمر لا يعرفون كيف تتم عملية توظيف المفردات، وماهي معناها، وماهي ابجديات الكتابة، ولا يدركون كيف يولد المعنى من رحم المعاناة؛
أناس لم يكملوا تعليمهم الثانوي وبضغطة زر أصبحوا كتاب!.

ياسادة الكتابة فن، وأبسط مفهوم لها هي "السهل الممتنع"، ليس من قرأ كتاب أو صحيفة بات كاتبًا، أو من ملك جوال ذكي استطاع إنشاء وصنع مقال أو محتوى "مزيف" ليقال عنه إعلاميًا!؛ أن الكتابة ليست تجميع كلمات من هنا وهناك، أو الاستعانة بالذكاء الاصطناعي بالمهمة حتى تذيل اسمك أخيرًا أسفل المقال، لأنه سيأتي يوم وستغرق بأبسط امتحان، لالا.. الكتابة الحقة هي نزيف فكري وجهد داخلي لايقل عن الجهد الذي يبذله البنّاء أو العامل العضلي، كما أنها تأمل وتمزق داخلي وصدق لا يُمنح إلا لمن عاش الفكرة، وتقمص الدور وعاش مرارته؛
إن الذكاء الاصطناعي لا يعرف ما معنى أن تسهر لأجل جملة، أو أن تحذف فقرات كي تكتب واحدة تشبهك.

قد تتأخر أيام عن نشر مقال حتى تقرأه وتراجعه مرات عديدة قبل نشره، فالكتّاب الحقيقيون اليوم في معركة مزدوجة مع جهل يطغى، ومع آلة تصفيهم بهدوء، وتُعلي من شأن كاتب دخيل "مزور" أو طفيلي إلى عالم الكتابة النظيفة.

نحن لسنا كتاب على الإطلاق حتى لايتوهم من يقرأ المقال بأننا صنفنا أنفسنا من فئتهم، ولكن نحن "هواة" نتعلم كل يوم ونؤمن أن الحرف سيبقى لمن يستحقه لا لمن يستعيره، مع استحضار عامل المحاكاة والتطوير دومًا.