الصحفي الذي يعرف كل شيء

في زاويةٍ ما من هذا الوطن، بين دخان المقايل السياسية ونشرات الأخبار المتعبة، يعيش بيننا صحفي لا يشبه الصحفيين.

 لا تبحث عنه في قوائم المراسلين المعتمدين ولا في بيانات الوزارات، فهو أكبر من التصنيفات. هو الصحفي الذي يعرف كل شيء، ويرتبط بكل أحد، ولا يحتاج إلى مصدر، لأنه هو المصدر.

منذ أن خرج من المعتقل، انقلبت حياته. إلى مخبر، وناقل عنعنة، صار يمشي بين الناس متبخترا، كأن في جيبه أسرار لم يفشها من قبل عادل موفجة، وفي هاتفه أرقام الرؤساء الثمانية، وفي عقله ما لم يخطر على ذهن محلول سياسي مخضرم. 

يتحدث وكأنه كان في غرفة الاجتماعات يشاركهم لقمة القرار، حين وضعت سياسة الحكومة، ويروي الأحداث كما لو أنه أوحى بها شخصيا في أذن وزير ما.

لسان حاله يقول: إتصل بي رئيس الوزراء شخصيا، لأنه يمر بأزمة وزارية حادة. وفي رواية "تذكرت انني كنت للتو مع الوزير الإرياني، الموضوع تحت السيطرة، إنما اوصاني أن لا أفشي سره لمرتزقة الإنتقالي وما يطلع سرنا للإعلام، قالها بضجر: خليك معي وجنبي، واوعدك بتفاصيل لاحقا." 

ولم تأتِ التفاصيل أبدا. لكنها تظل "لاحقًا".

هذا الصحفي لا يحضر المؤتمرات، فالمؤتمرات تحضر إليه. لا يجري مقابلات، بل تجرى معه. إذا كتب منشورا على فيسبوك، فاعلم أن نصف السياسيين سيتصلون به فورا، لا لينفوا، بل ليؤكدوا، ويباركوا، وربما يعتذرون له إن لزم الأمر.

ومن غرائب الأمور أنه يعرف نوايا الناس قبل أن يعرفوها، ويحلل الخطابات قبل أن تلقى، ويصحح تصريحات المسؤولين على الهواء لأن "المعلومة عنده من مصدر موثوق، لا يستطيع ذكر اسمه". وهذا المصدر، بالمناسبة، يتكرر كثيرا لدرجة أنك تشك أنه يتحدث عن نفسه في خلوة "الزولي".

ولا تسأله عن الأحزاب، فهو صديق رؤسائها، ومستشارها الخفي، والمشارك السري في صياغة بياناتها.

هذا الصحفي ليس كالبشر. إنه يمشي بيننا كظلنا، لكنه يعيش في خيال محكم، صممه بنفسه ليكون فيه البطل والناطق الرسمي باسم الحقيقة (التي لا يعرفها سواه). 

والكارثة أنه مقتنع تماما بما يقول، حتى أنك تبدأ في تصديقه قبل أن تكتشف أن كل ما قاله كان مجرد مشهد درامي من مسلسل لم يكتب بعد.

لكن لا بأس، ففي زمن السبهللة السياسية، لا بأس ببعض الخيال. ربما، نحتاج أمثال هذا الصحفي "الفلتة"، ليذكرنا أن الحقيقة أحيانا لا تحتاج إلى دليل، بل إلى ثقة زائدة بالنفس، وهاتف مليء بالأرقام التي لا ترد.