اليمن نَفَسُ الرحمن في جسد الأمة
منذ أن بعث الله هذه الأمة بالرسالة الخاتمة؛ شاءت حكمته أن يجعل شعوبها وقبائلها روافد تصب في نهر واحد، لكلٍّ منها بصمته وأثره، ولكلٍّ منها ميدان يختص به. وبين هذه الشعوب، يظل اليمن وأهله موضع بشارات النبوة، ومثار إعجاب التاريخ، بما حملوه من خصال الإيمان والرحمة والحكمة، وما بذلوه من تضحيات في سبيل الدين والأمة.
قال رسول الله ﷺ في الحديث: «أتاكم أهل اليمن، هم أرق قلوبًا وألين أفئدة، الإيمان يمان والحكمة يمانية»
وفي رواية أخرى: «ألا إن الإيمان يمان، والحكمة يمانية، ونفَس الرحمن من قبل اليمن».
هذه الشهادة النبوية لم تكن مجاملة عابرة؛ بل هي وصف متجذر في فطرة أهل اليمن؛ قلوب رحيمة، وألسنة صادقة، وإيمان ثابت، وحكمة راسخة، وصبر عند البلاء. ولذلك قال الحسن البصري: "إن من ألين الناس قلوبًا لأهل اليمن، وإنهم لأهل طاعة ولزوم للجماعة".
كان اليمنيون من أوائل من أسلموا عن يقين؛ لا خوفًا ولا طمعًا؛ بل حبًا للحق. وُفُودُهم جاءت إلى النبي ﷺ قبل فتح مكة، فبايعوه وآزروه. ويكفي أن نذكر قصة إسلام همدان حين أسلموا جميعا في يوم واحد، فخرّ النبي ﷺ ساجدا لله شكرا!
لم يكن إسلامهم كلمات تقال؛ بل أعمال تترجم؛ حملوا أرواحهم إلى ميادين الجهاد، وكانوا من أنصار الدعوة ونواة الجيوش الفاتحة. برز منهم معاذ بن جبل، وأبو موسى الأشعري، وجرير بن عبد الله البجلي، قادة ومعلّمين ومجاهدين، نشروا الإسلام شرقا وغربا.
لم يقتصر دورهم على الجهاد بالسيف؛ بل امتد إلى الجهاد بالكلمة والعلم. خرج منهم علماء كبار ملأوا الدنيا نورا، كالإمام عبد الرزاق الصنعاني، والإمام الشوكاني، وغيرهم من أهل الحديث والفقه والدعوة. وانتشر أثرهم بالتجارة الصادقة والأمانة، حتى وصل الإسلام إلى الهند والصين وشرق إفريقيا وجزر الملايو على أيدي تجار يمنيين جمعوا بين الدعوة والخلق.
وفي كل معركة للأمة مع الغزاة والمحتلين، كان لليمنيين سهم وافر، من مقاومة الصليبيين إلى مقارعة البرتغاليين في البحار، مصداقا لقوله تعالى: ﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ﴾.
لقد ورث أهل اليمن حضارة ضاربة في أعماق التاريخ؛ من سبأ وحِمْيَر ومعين، بما اشتهروا به من عمران وتنظيم وتجارات واسعة. وجاء الإسلام ليصقل تلك المواهب، ويخرجها من ضيق العصبية إلى سعة الرسالة. فصاروا بناة للحضارة الإسلامية، وسدنة للعلم والدعوة، وحماة لطرق الحج، وأكرموا وفود الله بكرمهم المعهود.
اليوم، والأمة الإسلامية تتخبط في الفتن وتئن من الاستبداد والتمزق، تبرز الحاجة أكثر من أي وقت مضى إلى الصفات التي مدح بها النبي ﷺ أهل اليمن: الإيمان، والحكمة، ولين القلوب، وقوة العزائم.
فاليمن بما يملكه من رصيد حضاري وروحي، وبما فيه من علماء ومصلحين، قادر أن يسهم في نهضة جديدة، تقوم على العدل والشورى والحرية. قادر أن يكون صوت العقل في زمن الغضب، ونفَس الرحمة في زمن القسوة.
لقد كان اليمن عبر العصور "نفَس الرحمن" في جسد الأمة؛ يبعث فيها الحياة عند الشدائد، ويعيد لها قوتها عند الانكسار. واليوم، تتطلع أعين المسلمين إلى هذا الشعب الأصيل أن يجدد دوره، فيكون كما كان؛ طليعة الإصلاح، ورمز الحكمة، ومنبع الإيمان.
فما أشد حاجة الأمة اليوم إلى أن يسيل دمعها رحمة قبل أن يسيل دمها حسرة، وأن توحَّد صفوفها قبل أن تتوحد عليها سهام أعدائها. وما أشد حاجتها إلى نفَس يماني يعيد البسمة إلى القلوب، واليقين إلى النفوس، والنهضة إلى الأمة كلها!
ودمتم سالمين!