الشماتة: فرحٌ قصير، وجرحٌ طويل في القلب!
بقلم: حسن الكنزلي
ليست الشماتة مجرد لحظة فرح عابر، ولا ابتسامة خفيفة تمرّ في زحمة الأخبار والتعليقات؛ إنها داء صامت، يتسلل إلى القلب دون ضجيج، فينخره من الداخل، ويترك صاحبه يظن أنه سالم، وهو في الحقيقة يفقد إنسانيته شيئا فشيئا.
الشماتة خُلُق خفي؛ قد تختبئ خلف سخرية عابرة، أو تعليق ساخر، أو ارتياح صامت لسقوط الآخرين. لا تُرى آثارها على الجوارح؛ لكنها عند الله عظيمة؛ لأنها إعلان فرح بألم البشر، وشهادة قسوة في محكمة الرحمة.
وليس كل فرح شماتة؛ فالفرح بنصرة الحق عبادة وعدل، كما أخبر القرآن الكريم، أما الفرح بزلة الناس وسقوطهم، فخلل في القلب؛ لا علاقة له بالموقف، وقد حذّر منه رسول الرحمة ﷺ بقوله: «لا تُظهر الشماتة لأخيك فيرحمه الله ويبتليك».
وكان السلف يرون الشماتة سقوطا في المروءة قبل أن تكون ذنبا، يقول الفضيل بن عياض رحمه الله: «ما شمتُّ بمذنب قط؛ لأني لا آمن أن أُبتلى بما ابتُلي به». فالشماتة ليست موقفا عابرا؛ بل مرآة قلب، تكشف مقدار ما فيه من رحمة أو قسوة.
الابتلاء سُنّة ماضية؛ لا ينجو منها نبي ولا ولي؛ لكن الشماتة انقلابٌد في فهم القضاء والقدر؛ إذ يرى الشامت البلاء عقوبة للناس، وينسى أنه امتحان، وأن القلوب بين أصابع الرحمن. وقد نبّه النبي ﷺ إلى أن التعجيل بالعقوبة قد يكون علامة خير؛ لا هلاك. ولهذا كان علي بن أبي طالب رضي الله عنه يحذّر من الأمان الزائف، فالدوران سنة، واليوم شاهد وغدا مشهود.
لا تولد الشماتة من فراغ؛ بل تنبت من تربةٍ مريضة؛ حسد يرى نعمة غيره تهديدا، وجرح لم يُشفَ، وشعور نقص يبحث عن تعويض زائف. يقول ابن القيم رحمه الله: "إن الحاسد عدوّ لنعمة الله، ساخط على قسمته". ومن عجز عن أن يفرح بنجاحه؛ فرح بسقوط غيره؛ فكان ارتفاعه على حافة هوّة.
لذة الشماتة ليست سلاما؛ إنها مكافأة عصبية زائفة، تفرح الجسد لحظة، ثم تترك القلب أكثر قسوة. ومع التكرار تتحول إلى عادة، ثم إلى إدمان: تتبّع للعثرات، وتلذذ بالفضائح، حتى يصبح الألم خبرا، والإنسان مادة للفرجة. وقد حذّر النبي ﷺ من تتبع العورات، لأن من يفعل ذلك يُعرّض نفسه لانكشاف مماثل.
الشماتة مرض أخلاقي قبل أن تكون انفعالا نفسيا؛ خيانة للرحمة، وتناقض صريح مع مكارم الأخلاق. يقول الحسن البصري رحمه الله: «المؤمن يستر ويعظ، والفاجر يهتك ويُعيّر». وهي كذلك عدوى اجتماعية؛ إذا سرت؛ أفسدت الروابط، وحوّلت الاختلاف إلى خصومة، وجعلت من الزلات وقودا للصراع بدل أن تكون جسور إصلاح.
في زمن المنصّات، تحوّلت الشماتة إلى ثقافة لها جمهور؛ تُسوَّق الفضيحة بوصفها خبرا، والسقوط بوصفه ترفيها. تُضخّم الزلة، وتُعاد آلاف المرات؛ حتى يُسلب الخطأ إنسانيته. والقرآن يحذّر من محبة شيوع السوء، لأنها شماتة مقنّعة بثوب الإعلام.
حتى في ساحات العمل، تهدر الشماتة الطاقات؛ يشمت موظف بفشل زميله، ويستقوي مدير بزلة مرؤوسه، فتسود قيادة سامة، ويُقتل التعاون. ولا يُبنى إنجاز على تشفٍّ، ولا تزدهر مؤسسة بقلوبٍ متربصة. وقد قال عمر بن عبد العزيز رحمه الله: «ما نُزعت الرحمة من قوم إلا شقوا».
الموقف الإيماني واضح؛ رحمة؛ بدل التشفي، ودعاء للمبتلى؛ بدل السخرية، وشكر للعافية؛ بدل التكبر، والعفو قوة، والرحمة نضج، ومن شكر العافية؛ سلم من الكِبر. وما من قلب سليم؛ فرح بألم غيره.
علاج الشماتة يبدأ من الداخل: محاسبة القلب؛ لا مراقبة الناس. السؤال ليس: ماذا فعلوا؟ بل: ماذا تحرّك في قلبي حين سقطوا؟ ثم يكون الدواء الأعظم: استبدال الشماتة بالدعاء، والتشهير بالستر. وقد قال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله: «لو كانت لي دعوة مستجابة، لجعلتها لمن يسيء إليّ».
لا دوام لحال؛ سنة لا تحابي أحدا. من شمت ابتُلي، ومن استعلى أُديل عليه. وسقوط المجتمعات يبدأ بسقوط الأخلاق قبل سقوط الاقتصاد والسياسة.
فلا تفرحوا بسقوط أحد؛ النجاة ليست في تعثّر غيرك؛ بل في سلامة قلبك. كونوا شهود رحمة لا قضاة شماتة، دعاة إصلاح لا تجّار فضائح؛ فالقلب السليم هو الزاد الوحيد الذي ينفع يوم لا ينفع مال ولا بنون.
عافاني الله وإياكم من الشماتة وأدواء القلوب، ودمتم سالمين!


