حضرموت.. غدر بريطانيا وما أشبه اليوم بالأمس!
قبل ثمانية وخمسين عامًا من اليوم، توقفت السفينة مريم ب أمام مدينة المكلا في 17 سبتمبر 1967، وعلى متنها ثلاثة من سلاطين حضرموت، بعد أن غادرهم سلطان الواحدي وانضم إلى اتحاد الجنوب العربي أواخر عام 1963.
استقرت السفينة، المملوكة لأحد رجال الأعمال السعوديين من حضرموت، في عرض البحر، حيث وقف غالب بن عوض القعيطي ـ سلطان الدولة القعيطية ـ يتأمل مدينة المكلا، وإلى جانبه كل من حسين بن علي الكثيري ـ سلطان الدولة الكثيرية ـ وعيسى بن علي بن عفرار ـ سلطان الدولة المهرية.
لم يكن قد مضى على السلطان القعيطي في الحكم سوى سنة وبضعة أشهر، بعد أن قطع دراسته العليا في الجامعات البريطانية إثر وفاة والده. ورغم محدودية تجربته، أدرك وهو يتأمل المكلا وتلك الزوارق التي طوقت السفينة غدر بريطانيا به وزملائه، وتخليها عن وعودها لهم قبل رحلة عودتهم من لندن عبر جنيف، القاهرة، بيروت، وجدة.
كانت رحلة تفتقر إلى الحصافة السياسية ـ في تقديري ـ ربما لمحدودية تجربته في الحكم، ولثقته بالإنجليز، رغم تأهيله العلمي، فضلًا عن جاهزية سلطنته جغرافيًا وتنظيميًا لإدارة اتحاد حضرموت. لكنّه أدرك حقيقة فعل بريطانيا، التي كانت تدير حضرموت من دار المستشارية في المكلا، حين اختفى علمها الذي لم يعد يُشاهد من حيث تقف السفينة مريم باخشب محاصرة، فما كان منه إلا أن تنازل، بناءً على طلب نفر من أعضاء الجبهة القومية، المسنودين بقوة جيش البادية الحضرمي.
كانت تلك نتيجة لما جرى ترتيبه في أغسطس 1967 من قبل المستشار البريطاني "جيم ألس" ونائبه ضابط الاستخبارات "كراوش"، مع ضباط جيش البادية الذين استُدعوا إلى قاعدة مطار الريان. كان في مقدمتهم القائد الحضرمي العقيد سالم عمر الجوهي، الذي خلف الكولونيل الإنجليزي "قري"، والعقيد حسين مسلم المنهالي، الضابط الحضرمي الذي أهّله الإنجليز علميًا وعسكريًا لقيادة أركان الجيش، بالإضافة إلى الشيخ كرامة بن عاشور ممثل المهرة في المكلا، وغيرهم من كبار الموظفين المرتبطين بالمستشارية والسلطنات.
أبلغهم المستشار البريطاني بإلغاء جميع المعاهدات مع السلطنات الحضرمية، وأن عليهم استلام البلاد وإدارتها، مع اعتماد كامل ميزانية الجيش لخمسة أشهر، وصرفها من بنك الشرق، بموجب تفويض خطي للجوهي والمنهالي وصالح بن بريك (أو البريكي)، المسؤول المالي لجيش البادية.
عارض كرامة بن عاشور قرارات المستشار البريطاني، بينما قبل الضباط ذلك باعتباره أوامر من قيادتهم الإنجليزية. ذلك ما جرى في مطار الريان. ورغم سريته، شعر السلاطين أو استشعروا كموظفين سامين بخديعة حكومة حزب العمال، التي وصلت إلى الحكم عام 1966 برئاسة هارولد ولسن. لذا قرروا السفر إلى لندن لمراجعة الدوائر البريطانية، التي قدّمت لهم وعودًا أودت بهم إلى العودة على ظهر مريم ب.
فقد تقرر ضم حضرموت إلى جمهورية اليمن الجنوبية، التي ستقام على أنقاض اتحاد الجنوب العربي، لمحاصرة عبد الناصر في صنعاء، وقطع الطريق أمام تطلعات الملك فيصل تجاه بحر العرب، بحسب "السير هنري تريفليان"، الذي عُيّن مندوبًا ساميًا لترتيب انسحاب بريطانيا من عدن، في الوقت الذي كان العرب يعيشون تبعات هزيمة 1967.
استولى جيش البادية على حضرموت، وتواصل ضباطه مع عناصر الجبهة القومية، الذين ترددوا ولم يتجاوبوا خشية انكشاف ضعف تنظيمهم، حتى وصلت إليهم الأوامر من قيادتهم في القاهرة، حيث كانوا يشاركون في اجتماعات فصائل الحركة الوطنية الثلاث (الرابطة، التحرير، القوميون + المستقلون) في الجامعة العربية، بدعوة من مصر ـ عبد الناصر ـ لتوحيد القوى واستلام الاستقلال، حتى لا تنفرد حركة القوميين العرب بقيادة الدولة الوليدة.
تلك مرحلة غدرت فيها بريطانيا بحضرموت، وسلّمت الاستقلال إلى فصيل الجبهة القومية، بعد معارك خاضها جيش اتحاد الجنوب العربي في عدن وأريافها مع جبهة تحرير الجنوب اليمني، ممهّدًا الطريق أمام الجبهة القومية لتحرير جنوب اليمن، الأمر الذي مكن بريطانيا من إعلان تفاوضها مع القوميين باعتبارهم المسيطرين على الأرض.
اليوم، وبعد ثمانية وخمسين عامًا، يتكرر السيناريو البريطاني، وإن كان هذه المرة عبر دور أو وكيل عربي، وأسماء وعناوين ومناطق وارثة، مثل المجلس الانتقالي الجنوبي، المطالب باستعادة الجنوب العربي، وضم حضرموت إليه.
ويبقى السؤال: ما هي القوة العسكرية التي ستتولى دور جيش البادية؟ هل هي "النخبة الحضرمية" بحكم نشأتها وتمويلها؟ أم قوى عسكرية أكثر قوة يمكن أن تتخذ من النخبة الحضرمية واجهة، في الوقت الذي لا يزال بعض الحضارم على خلاف مع حلف قبائل حضرموت و المؤتمر الجامع الحضرمي؟
لقد آن الأوان أن نتذكر لنعِي، لا أن نتباكى، أن حضرموت لن تكون إلا بوحدة أهلها.. قبل فوات الأوان!