الكيانات الجامعة بين الاتحادية والفدرالية وحق تقرير المصير!
كثيرًا ما تختلط في النقاشات العربية، واليمنية على وجه الخصوص، مصطلحات «الاتحادية» و«الفدرالية» حتى يكاد يُظن أن لا فارق بينهما. غير أن العودة إلى الجذور تكشف أن بينهما تمايزًا عميقًا، يتصل بجوهر العلاقة بين الدولة والمجتمع، ويحدد إمكانيات البقاء أو الانقسام.الفارق المفاهيمي: بين الإطار والنظام الاتحادية توصيف سياسي عام لدولة تتألف من وحدات متعددة ضمن إطار واحد. وغالبًا ما يُستخدم في الخطاب العربي للدلالة على التماسك والوحدة، كما في «الإمارات العربية المتحدة» أو «الاتحاد الروسي».- الفدرالية، المشتقة من اللاتينية foedus (الميثاق أو العهد)، هي نظام حكم محدّد دستوريًا، يقوم على توزيع الصلاحيات بين سلطة مركزية وسلطات إقليمية، بحيث تُحمى هذه الصلاحيات بنصوص دستورية ملزمة لا يجوز تجاوزها.بذلك يمكن القول: كل فدرالية هي اتحادية، لكن ليست كل اتحادية فدرالية. فقد يكون الاتحاد هشًّا أو صوريًا كما في الاتحاد السوفيتي، بينما الفدرالية الناجحة تستمد قوتها من وضوح العقد الاجتماعي الدستوري الملزم الذي ينظم العلاقة بين الأطراف.التجارب العالمية: بين الصمود والتفكك
1. الولايات المتحدة الأميركية (الفدرالية الصامدة):وُلدت من دستور 1787 الذي جاء بعد حرب الاستقلال، ورغم اختبار الحرب الأهلية (1861–1865) انتهت التجربة بترسيخ مبدأ بقاء الاتحاد «غير قابل للتجزئة»، ما جعل الدستور عقدًا اجتماعيًا راسخًا.
2. الاتحاد السوفيتي (الاتحادية المتفككة): تأسس عام 1922 على أساس منح الجمهوريات حقًا نظريًا في «الانفصال»، وهو نصّ بدا وقتها ضمانة شكلية، لكنه تحوّل لاحقًا إلى أداة تفكيك عندما ضعفت قبضة المركز في أواخر الثمانينات
.3. يوغسلافيا (الاتحاد الدموي):جمعت قوميات متعددة في إطار اتحادي، لكن غياب عقد اجتماعي عادل وهيمنة قومية بعينها فجّرا حروبًا أهلية دامية في التسعينات، أنهت الاتحاد بدماء وانقسام.
4- تشيكوسلوفاكيا (الطلاق المخملي):على العكس من يوغسلافيا، فضّلت المكوّنات الانفصال التفاوضي السلمي عام 1993، ما أظهر أن الاتحادات يمكن أن تنتهي أيضًا بطرق توافقية بعيدًا عن الحروب.هذه الأمثلة تكشف أن مصير أي اتحاد مرهون بصلابة العقد الدستوري ومدى رسوخه في وجدان المكونات.
المشهد اليمني: غياب العقد الاجتماعي اليمن، عبر تاريخه الحديث، لم يعرف عقدًا اجتماعيًا جامعًا. حرب 94م الظالمة على الجنوب والعدوان الغاشم على أبنائه والإجتياح الفج لأراضيه وفق المنطق العقيم عن الأصل والفرع ومفاهيم الضم والإلحاق والتوسع بالقوة أنهت كليًا وحدة مايو 1990 أجهضت دون رجعة كل مشروع لوحدة إندماجية جديدة. وثيقة العهد والاتفاق (1994) مثّلت محاولة متأخرة لمعالجة الخلل، لكنها وُئدت مع اندلاع الحرب. الحوار الوطني (2013–2014) طرح صيغة «ستة أقاليم»، لكنها بدت تقسيمية أكثر من كونها فدرالية متوازنة، وانهارت مع انقلاب الحوثي–صالح.القضية الجنوبية تظلّ هنا بيت القصيد. فهي ليست مجرد مظالم آنية، بل انعكاس لغياب عقد اجتماعي يؤسس للندية والمواطنة المتساوية. وأي حديث عن «الاتحادية» في اليمن سيظل ناقصًا ما لم يعالج هذه الجذور ويعيد تعريف الوحدة على أساس شراكة حقيقية.بين الوحدة والانفصال… دروس وعِبَر التجارب العالمية تُظهر أن: الفدراليات الناجحة (أميركا، ألمانيا، سويسرا) تستمد صلابتها من عقد اجتماعي واضح وملزم. الاتحادات الهشّة (الاتحاد السوفيتي، يوغسلافيا) تنهار حين يغيب التوازن وتُستدعى نصوص الانفصال. الانفصال قد يكون دمويًا أو سلميًا، بحسب وجود الإرادة السياسية.في الحالة اليمنية، فإن استمرار غياب العقد الاجتماعي سيبقي خيار «فك الارتباط» قائمًا في الوعي الجنوبي. أما التوصل إلى صيغة فدرالية متوازنة لتوزيع السلطة والثروة فقد يفتح أفقًا جديدًا لإقامة كيان جامع عادل ومستدام.لمسة استشرافية: اليمن والتحولات الإقليمية
اليمن لا يعيش في فراغ. موقعه الاستراتيجي على البحر الأحمر وباب المندب يجعله جزءًا من معادلة الأمن الخليجي والإقليمي. ومن هنا، فإن صياغة عقد اجتماعي جديد ليست مجرد شأن داخلي، بل شرط لانفتاح اليمن على منظومته الطبيعية: الجزيرة والخليج.إن صيغة اتحادية أو فدرالية متينة يمكن أن تكون مدخلًا لاندماج اليمن مع مجلس التعاون الخليجي، بما يعزز دعائم الإستقرار لمنظومة الأمن في الجزيرة والخليج والأمن القومي العربي عمومًا.خاتمة
الاتحادية ليست مرادفًا للفدرالية، والفارق بينهما سياسي وتاريخي أكثر منه لغوي. التجارب الدولية تكشف أن مصير الدول يتوقف على وجود عقد اجتماعي راسخ، يُترجم إلى دستور ملزم قائم على الثقة والعدالة.وفي اليمن، لا يمكن لأي دستور جديد أن يكون عتيدًا إلا إذا واجه المظالم التاريخية، وفي مقدمتها القضية الجنوبية، وأعاد تعريف الكيان الوطني الجامع على أساس المواطنة المتساوية والشراكة الفعلية.
فبين الاتحادية كإطار، والفدرالية كنظام، يكمن الطريق إما إلى دولة جامعة عادلة، أو إلى إعادة إنتاج سيناريوهات التفكك التي عرفها العالم من قبل.