ما الإنسان إن لم يكن كرامة؟

الإنسان بلا كرامة، هو ريح بلا عطر، وماء بلا صفاء، ونار بلا لهيب. ليس جسداً يُحمل، ولا عقلاً يُحسب، ولا قلباً يخفق وحسب؛ بل هو المعجزة التي اسمها الكرامة. فإذا سقطت الكرامة، انطفأت المعجزة، وصار الجسد حياً بلا حياة، والعقل فارغًا، والقلب عاجزًا عن النبض الحقيقي.

منذ فجر وجوده، سمع الإنسان همسًا في أعماقه: "لقد كُرِّمت." ذلك الهمس هو الروح، هو العهد الأول. وحين يفرّط في كرامته، يفرّط في ذاته، كما يفرّط المنفي في وطنه، فلا يجد مأوى يعوضه، ولا صوتًا داخليًا يهدئ قلبه، ولا وجهًا يرى فيه نفسه.

الكرامة ليست زينةً على الرأس، بل هي خبز الروح وماء القلب. من فقدها جاع ولو امتلأ بطنه، وعطش ولو أحاطت به الأنهار. هي صمت الجبال حين تعلو، وهدير البحر حين يثور. هي ما يمنح الإنسان القدرة أن يقول: أنا، دون خوف ولا تبعية.

في زمننا اليوم، يعيش الإنسان بين ضغوط العمل، وتقلبات الحياة، وكم هائل من الرسائل التي تُخبره أنه ليس كافيًا، ليس محبوبًا، ليس موفقًا بما فيه الكفاية. كثيرون يفرّطون في كرامتهم خوفًا من الفقد أو الخجل، فيجدون أنفسهم بلا صوت حقيقي، بلا وجه يُرى فيه أنفسهم، بلا وطن داخلي يُطمئن الروح.

فالكرامة، في المصطلحات النفسية، هي شعور الإنسان بقيمته الذاتية، قدرته على احترام ذاته وحدوده الداخلية، واستقلاليته النفسية. فقدان الكرامة يولد شعورًا بالمهانة، العجز، القلق، الاكتئاب، والانكسار النفسي. الإنسان الذي يفقد كرامته يعيش صراعًا داخليًا حادًا مع ذاته، يشعر أنه مضطر للتنازل عن مبادئه أو التكيف مع ضغوط الحياة، ما يؤدي إلى حالة من التفكك النفسي.

في المقابل، صون الكرامة يمنح الإنسان سلامًا داخليًا، وضوحًا في اتخاذ القرارات، وقوة لمواجهة الضغوط اليومية، ويُعزز قدرته على التعافي النفسي والشفاء الذاتي. من يحافظ على كرامته، يستطيع إعادة بناء ذاته بعد الأزمات، وتحويل الألم إلى قوة، والخسارة إلى درس، والظلم إلى دعامة لمزيد من الثقة بالنفس.

الإنسان الذي يحافظ على كرامته، سواء في قيادته لذاته، أسرته، أو مجتمعه، يكون قادرًا على الاستقرار النفسي، التأثير الإيجابي على الآخرين، والعيش بسلام مع ذاته. أما من يفرّط في كرامته، حتى تحت ضغوط الحياة المختلفة، يعيش صراعًا داخليًا دائمًا، يضعف قدرته على حماية نفسه، اتخاذ القرارات الصحيحة، والحفاظ على توازنه الداخلي.

قال الفلاسفة: الكرامة قيمة لا تُشترى.
وقال المتصوفة: هي النفخة التي جعلت من ترابٍ إنسانًا.
وقال الشعراء: هي النغمة التي تحفظ للوجود معناه.
أما النفوس الصادقة فتعلم: الكرامة ليست ما يراه الناس، بل ما تشعر به وأنت تواجه ذاتك بلا قناع.

من ضيّع كرامته، ضيّع القدرة على النظر في عيني نفسه. قد يملك الأرض، لكنه لا يملك ذاته. قد يلبس الحرير، لكن قلبه يظل عارياً. أمّا من صانها، فإنه يربح نفسه ولو خسر الدنيا كلها. يمشي مرفوع الرأس، لا لأن الناس يرونه عالياً، بل لأنه لا يرى نفسه ساقطاً.

الأمم بلا كرامة، بلا هوية. المجتمعات التي تبيعها، تتحول إلى أسواق للأرواح المستعملة. والفرد الذي يفرّط فيها، يصير ظلّاً لغيره. إن الكرامة ميراث جماعي؛ إن انهارت في قلب، سرى الخراب في القلوب جميعاً.

الكرامة ليست عناداً أجوف ولا كبرياء زائفاً، بل هي رقة وعمق. هي أن تقول "لا" حين تُراد لك المهانة، وأن تقول "نعم" حين يُدعى قلبك إلى الخير. هي أن تدرك أن إنسانيتك أثمن من أي عرض، وأن حريتك أوسع من أي قيد.

فما الإنسان إن لم يكن كرامة؟
هو ورقة في مهبّ الريح، وصوت يضيع في الصدى، وظل يذوب في العدم.
وما الإنسان إذا كانت الكرامة قلبه؟
هو شجرة تضرب بجذورها في الأرض، وترفع أغصانها نحو السماء، فلا الريح تقتلعها، ولا العواصف تكسرها.

اليوم، وسط ضجيج الحياة وتقلباتها، يبقى الإنسان الذي يحافظ على كرامته مستقرًا نفسيًا، متعافياً، صادقًا مع ذاته، مؤثرًا في الآخرين، وحيًّا في أعماقه. الكرامة هي الحارس الأخير لمعنى وجوده: إن بقيت، بقي كل شيء، وإن انهارت، انهار كل شيء.

فلتصن كرامتك كما تصون قلبك، لأنها أنت: صورتك أمام نفسك، وصوتك في حضرة الله، وظلك الذي يرافقك حيثما سرت.
من فقدها فقد اسمه. ومن صانها صار اسمه قصيدة لا تموت.