حين نُقلِّد ونحسب أننا اخترعنا!

بقلم: حسن الكنزلي


في زمن صار فيه كل من أمسك بمفكّ أو أنبوب نحاسيّ يُلقَّب بالمخترع، باتت الحقيقة تائهة بين وهج الكاميرات وسذاجة التصفيق. يُطلّ علينا بين حين وآخر شابّ صنع "فرنا شمسيّا" في فناء منزله، أو آخر ركب "فقاسة بيض" بوسائل بسيطة، فتتناقل وسائل الإعلام الخبرَ في عناوين مثيرة: "شاب عربي يخترع جهازا فريدا من نوعه"!
لكن السؤال الذي يختبئ خلف البهرجة: هل هذا حقّا اختراع؟ أم هو تطبيق منزلي لفكرة قديمة أعادها من أرشيف التاريخ؟

الاختراع الحقيقي ليس في أن تُعيد صنع ما وُجد! بل في أن تخلق ما لم يكن. هو لحظة الضوء التي تخرج من الظلام، والفكرة التي لم تطرأ على عقلٍ من قبل. أما أن تُصنع شيئا معروفا بيديك، فذلك جميل، ويُحمد عليه الجهد؛ لكنه ليس اختراعا؛ بل اعتماد على النفس في تنفيذ نموذج موجود.

صانع الفرن الشمسي ليس مخترعا؛ لكنه إنسان عصاميّ أحبّ أن يصنع بيده بدل أن يشتري. وهذه قيمة نبيلة تستحق الاحترام؛ لكن لا يجوز أن نمنحها لقب "الاختراع"، لأننا بذلك نقتل المعنى العلمي ونُفرغ الكلمة من جوهرها.

المشكلة لا تقف عند حدود الشخص، بل تمتد إلى إعلام يبحث عن الإثارة أكثر من الدقة! كاميرا مسلطة، ومذيع يصرخ: "اختراع محليّ ينافس الغرب!"، فيتلقف الجمهور القصة، ويبدأ الإعجاب ينهال بلا تحقق. وهكذا يتحوّل الحدث من تجربة منزلية إلى "إنجاز وطني"، ويُمنح صاحبه لقب "العالم المخترع"؛ دون ورقة بحث، ولا لجنة علمية، ولا تسجيل براءة.

إن الإعلام حين يخلط بين التقليد والاختراع يُضلل الناس عن فهم معنى الإبداع، ويزرع في عقول الناشئة أن الادعاء أسهل من الاكتشاف، وأن الظهور في نشرات الأخبار أهم من المرور عبر المختبرات.

قد يبدو الأمر بسيطا؛ لكنه في جوهره ظاهرة مقلقة؛ فحين يزعم شخص أنه اخترع ما هو معروف، فهو لا يضر نفسه فقط؛ بل يعتدي على الوعي الجماعي، ويهدر ثقة المجتمع في البحث العلمي. والمؤسف أن بعضهم يستغل هذا الوهم لتسويق مشروعات تجارية، فيحصل على دعم أو تمويل، بينما المبدع الحقيقي يظل في الظل، يبحث عن مختبر أو منحة أو نافذة يسمع من خلالها أحدٌ صوته.

نحن بحاجة إلى أن نُقدّر العصامية والجهد، وأن نُشجّع من يعتمد على نفسه في صنع حاجاته، فذلك طريقٌ إلى النهضة؛ لكننا في الوقت ذاته يجب أن نُسمي الأشياء بأسمائها، فالمجتمع الذي لا يفرّق بين من يخترع ومن يقلّد، سيفقد بوصلة الإبداع. ومن صنع فقاسة بيض في بيته هو رجل عملي ومجتهد؛ لكن ليس مخترعا. ومن أعاد صناعة فرن شمسي بتصميم جاهز هو بارع تطبيقي؛ لا مُبدع أصيل.

وتكريم هؤلاء واجب؛ لكن على أساس أنهم صُنّاع ومجتهدون، لا على أنهم مخترعون. أما الاختراع فله رجاله الذين يضيفون إلى الوجود فكرة جديدة، لا تكرارا لما كان.

لنُنشئ جيلا يفهم الفرق بين الحرفي والعالم، وبين التطبيق والابتكار، وبين الإعجاب الإعلامي والاعتراف العلمي.
فلنُعلّم أبناءنا أن الاختراع ليس مجرّد منتج مختلف الشكل؛ بل فكرة غير مسبوقة تخدم الإنسان وتغيّر حياته.
ولنُطالب الإعلام أن يكون منبرا للتحقق؛ لا للتهويل! وأن يحتفي بالعصامي؛ دون أن يخلط بينه وبين المخترع! لأنّ الحقّ لا يزدهر في ضباب المفاهيم؛ بل في وضوحها.

إن الأمة التي تُكثِر من "اختراعاتها الوهمية" تقلّ فيها الاختراعات الحقيقية. وحين نكرّم التقليد باسم الابتكار، نُميت روح الابتكار نفسها؛ فلتكن رسالتنا واضحة! العصامية تُحترم، والاختراع يُختبر، والتمييز بينهما هو علامة الوعي.
ودمتم ودامت أفكاركم صحيحة وصائبة!