جيل يعيش… والآلة تفكر

في زمنٍ تتسارع فيه التقنية بسرعة الضوء، لم يعد الإنسان يقف في موقع المراقب فحسب، بل أصبح في سباقٍ دائم مع الآلة التي صنعها بيديه. الذكاء الاصطناعي لم يعد مجرد فكرةٍ في روايات الخيال العلمي، بل صار واقعًا يعيش بيننا، يكتب ويترجم ويحلل ويقترح… وربما – في نظر البعض – يفكر.

لكن السؤال الجوهري الذي يطلّ من بين هذا الزخم التقني هو:

هل ما زلنا نحن نُفكّر فعلًا؟

كثيرون أصبحوا يعتمدون على البرامج الذكية في أدق تفاصيل حياتهم، حتى في صياغة أفكارهم وآرائهم. 

وكأننا نسلم مفاتيح عقولنا لآلة لا تعرف الدهشة، ولا تملك قلبًا يرتجف أمام فكرة جديدة.

العقل الإنساني خُلق ليتساءل، ليربط بين الأشياء، ليتعب في سبيل الوصول إلى الحقيقة… أما الاعتماد الكامل على الذكاء الاصطناعي، فهو أشبه بالجلوس في محطة عبور لا نهاية لها، ننتظر فيها من يفكر عوضًا عنّا.

إن التطور الحقيقي لا يكمن في اختراع أدوات تفكر بالنيابة عنا، بل في توسيع مداركنا واستخدام عقولنا لتوجيه تلك الأدوات.

العقل الذي يتطور هو العقل الذي يخطئ ويتعلم، يشكّ ثم يؤمن، يسقط ثم ينهض.

أما العقل الذي يتكل على الذكاء الاصطناعي ليحل مشاكله، فهو عقلٌ يتنازل عن جوهره الإنساني مقابل راحة مؤقتة.

الذكاء الاصطناعي يمكنه أن يجمع ملايين المعلومات في ثوانٍ، لكنه لا يستطيع أن يفهم معنى الألم أو الفرح أو الإلهام. تلك المشاعر التي تُنتج الشعر والفن والعلم، لا تُبرمج في معادلة رياضية. 

ولهذا يبقى الإنسان سيد المعرفة، لأنه لا يكتفي بالمنطق، بل يضيف إليه روحه.

ولعلّ أخطر ما نعيشه اليوم أننا نسمح للراحة أن تقتل فينا ملكة التفكير. 

كلما ازداد اعتمادنا على الآلة، ضعف حوارنا الداخلي مع أفكارنا، وتقلصت مساحة الخيال، وما لم ننتبه إلى ذلك، فإننا سنستيقظ ذات يوم في عالمٍ تُفكر فيه الخوارزميات، بينما العقول البشرية تُتابع بصمت.

التكنولوجيا ليست عدوًّا، بل حليفًا حين نستخدمها بوعي. 

لكن الوعي نفسه هو ما يجعلنا نعرف حدودها، فلا نُعطيها أكثر مما تستحق.

لنعمل على تطوير عقولنا بالقراءة، بالتأمل، بالتجربة، وبأن نطرح الأسئلة بدل أن نكتفي بالإجابات الجاهزة.

لقد وُهب الإنسان عقلًا ليكون صانع المستقبل، لا تابعًا له. 

وإذا خسر الإنسان قدرته على التفكير، فلن ينفعه أي ذكاء آخر مهما كان متطورًا.

فالعقل الذي يتطور هو الذي لا يتوقف عن السؤال، والإنسان الذي يعيش حقًا هو الذي لا يسمح لآلة أن تسرق منه متعة الاكتشاف.

 لأنني أؤمن أن العقل البشري هو المعجزة التي لا تُستنسخ،وأن التفكير ليس رفاهية… بل هو هوية الإنسان التي لا يجوز أن يفقدها.