اجتزاء الآيات.. حين يُحرّف المعنى ويُضلّ الفهم.
_بقلم: منصور بلعيدي_
في زمن تتسارع فيه الفتاوى وتُستدعى النصوص دون تدبر، يبرز خطرٌ فكريّ عظيم يتمثل في اجتزاء الآيات القرآنية من سياقها، واستخدامها في غير مواضعها، مما يؤدي إلى تحريف المعاني وتشويه المقاصد.
هذا السلوك لا يختلف كثيراً عمّا وصفه القرآن عن بني إسرائيل: _"يحرّفون الكلم عن مواضعه"_ ، وهو ما يجب أن يُحذر منه كل باحث عن الحقيقة وكل متأمل في كلام الله.
من أبرز الأمثلة على هذا التحريف، اجتزاء قوله تعالى: _"وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا"_ دون ذكر السياق الكامل للآية.
فهذه الجملة، حين تُنتزع من سياقها، يُفهم منها أنها دعوة مطلقة لأخذ كل ما ورد عن الرسول ﷺ، بما في ذلك الأحاديث التي تراجع عنها الرسول ص كحديث تأببر النخيل وحزيث حكمه بين المتخاصنين الذي عزاه الى شفق عقله وليس الى الوحي.
بينما السياق الأصلي للآية في سورة الحشر يتحدث عن تقسيم الفيء والغنائم ، ونص الاية :
"ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله إن الله شديد العقاب."_ (الحشر: 7)
السياق هنا واضح: الآية تتحدث عن توزيع الأموال، وليس عن السنة النبوية أو التشريع العام.
اجتزاؤها لاستخدامها في غير هذا السياق الذي نزلت به يُعد تحريفاً للقرآن، ويُضلل الناس عن الفهم الصحيح.
ومن الأمثلة الأخرى، تفسير قوله تعالى: _"يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم"_.
البعض يظن أن "أولي الأمر" تعني الحكام والرؤساء، لكن التدقيق في النص يكشف أن الطاعة لم تُقرن بـ"أولي الأمر" كما قُرنت بالله والرسول، بل جاءت بصيغة واحدة، مما يدل على أن طاعتهم مشروطة بطاعة الله ورسوله.
كما أن التعبير بـ"منكم" وليس "عليكم" يفتح باباً لفهم أوسع: فقد يكون "ولي الأمر" هو كبير العائلة، أو الجد، أو الأخ الأكبر، وليس بالضرورة الحاكم السياسي.
وهذا الفهم يعيد الاعتبار للسلطة الأهلية والاجتماعية، ويُبعد النص عن التوظيف السياسي المغلوط.
ويتضح ان فهم الاية كطاعة لأولي الأمر ، فهماً مغلوطاً.
وفي قوله تعالى: _"فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول"_.
لم يقل "إلى النبي" أو "إلى محمد"، بل قال "الرسول"، أي الرسالة ذاتها، أي القرآن الكريم.
فلو كان المقصود شخص الرسول ﷺ، لكان ذلك غير ممكن بعد وفاته، لكن المقصود هو ما جاء به من وحي، وهو ما يبقى حيّاً بيننا.
وهكدا يتضح ان الرد إلى الله والرسول بعني الرسالة لا الشخص.
اجتزاء الآيات وتحريف سياقاتها ليس مجرد خطأ لغوي أو تأويلي، بل هو خطر على العقيدة والفكر، ويؤدي إلى بناء مفاهيم مغلوطة، وتبرير سلوكيات لا أصل لها في الدين.
إن القرآن كتاب هداية، لا يُفهم إلا بالتدبر الكامل، والربط بين الآيات، ومعرفة أسباب النزول، ومقاصد الشريعة ، ولا يُقرأ مجتزأ، ولا يُفسر بمعزل عن سياقه.
ومن يفعل ذلك، يُشبه من حرّفوا الكتب السماوية السابقة.
فلنكن أمناء على كلام الله، ولنردّ النصوص إلى سياقها، ونُحسن الفهم قبل أن نُطلق الأحكام.


