لقاء الوفاء... بين الأجيال في ساحة العطاء
في أحد الأيام، قصدتُ محافظة الضالع، ليس اليوم ولا بالأمس، بل منذ أشهر خلت، حين أخذتُ سيارتي إلى أحد المهندسين هناك. وما إن وصلت إلى المدينة عند المهندس وترجلت من سيارتي، حتى وقع بصري على شخصية جنوبية وطنية تربوية لا تخفى على أحد؛ يعرفه الصغير قبل الكبير، ويجله الجميع لمكانته العلمية والنضالية والاجتماعية.
كان أمامي الأستاذ قايد أحمد محمد الجعدي – حفظه الله ورعاه وأطال في عمره – نائب رئيس النقابة العامة للمعلمين والتربويين الجنوبيين، ورئيس نقابة المعلمين بمحافظة الضالع.
رجلٌ اجتمعت فيه صفات الأب والمربي والمناضل والمعلم، فلا تكاد مدرسة في مديريات محافظة الضالع الخمس إلا وقد طرق بابها يومًا معلّمًا أو مشرفًا أو موجّهًا تربويًا، ولا ساحة ولا فعالية جنوبية إلا وكان في مقدمة صفوفها.
وقد لفت انتباهي يومها مشهد بسيط لكنه عظيم الدلالة؛ إذ رأيته يهشّ على نعاجه وسط الشارع العام، تحديدًا في شارع الجمرك قرب ملعب الصمود. فكان لي شرف التقدّم نحوه؛ أديت له تحية عسكرية احترامًا وتقديرًا، ثم سلّمت عليه بتحية الإسلام، وقبّلت جبينه ورأسه إجلالًا لمكانته.
تبادلنا الحديث بخطى متأنية حتى وصلنا إلى مكان نستظل به، وهناك امتد بنا الحوار لأكثر من ساعة، تطرقنا خلالها إلى مختلف القضايا التربوية والاجتماعية. وفي سياق الحديث، تناول الأستاذ الجعدي بعضًا من محطات عمله في التربية والتعليم، متحدثًا عن نزوله الميداني إلى المدارس في مركز الشعيب آنذاك، مستذكرًا زيارته لمدرسة قرية الصلئة، حيث التقى والدي – الفقيد المرحوم الأستاذ عيدروس علي صادق هرهرة رحمه الله تعالى.
وبين حديثه ودموع الذكرى، ترحم على والدي حين علم بوفاته، ثم أمسك بيدي وجلس على إطار سيارة قريب، وقال اجلس ودعاني للجلوس بجواره، ليقصّ عليّ قصة جميلة جمعت بينه وبين والدي في ذلك اليوم.
قال الأستاذ الجعدي:
دعني أولًا أترحم على فقيد الوطن والتربية والتعليم، الأستاذ المناضل عيدروس علي صادق هرهرة.
رحمه الله رحمة واسعة، فقد كان رفيق دربي وأعزّ الناس إلى قلبي. شخصية جنوبية وطنية عرفها الجميع، نذر حياته لخدمة وطنه ومجتمعه، فكان معلمًا مخلصًا، صاحب كفاءة عالية، لطيف المعشر، صادقًا، رحيمًا، صبورًا في عمله وتعامله، حكيمًا في رأيه."
تخرّج على يديه العديد من الكوادر الجنوبية، وكان مثالًا يُحتذى في الإخلاص والعطاء، كما عرفته مناضلًا وثائرًا، في مقدمة الصفوف منذ انطلاق الحراك السلمي، صاحب صفات نادرة، بعيدًا عن الأضواء وحب الذات.
كان لي شرف لقائه ذات يوم عندما كنت أعمل موجّهًا فنيًا، وكُلّفت بزيارة مدرسة الصلئة التابعة لمركز الشعيب، في وقتٍ كانت فيه الضالع ما تزال مديرية واحدة.
أقلّني السائق بسيارة (لاندكروزر) حتى منتصف الطريق، وأشار قائلًا: تلك هي الصلئة."
وصلت إلى القرية وسألت عن المدرسة، وعندما دخلت إليها وجدت الأستاذ عيدروس يجلس على تنك قديم إذ لم يكن هناك كرسي. نظرت إلى الجدار، فوجدت سبورة مكسورة، ثلثها مفقود، لكن الدرس مكتوب عليها بعناية وتنظيم يدلان على روح المعلم الحقيقية.
دعاني للجلوس على التنك اي بجانبه، وسرعان ما بدأت أطرح عليه بعض الأسئلة، فاكتشفت أنني أمام رجلٍ يعمل بإتقانٍ نادر، يمتلك أسلوبًا رائعًا في إيصال المعلومة، وحكمة في التعامل مع طلابه.
طرحت بعض الأسئلة على التلاميذ فزاد إعجابي بقدرتهم واستيعابهم، فقلت في نفسي: ما أعظم هذا المعلم!"
اطلعت على دفتر التحضير فوجدته مرتبًا بدقة متناهية، والوسائل التعليمية جاهزة بعناية. وكان موضوع الدرس يومها عن الصحة، فناقشته حول أهمية إشراك أولياء الأمور في دعم المدرسة وتوفير ما يلزم لها.
ورغم أن الطلاب كانوا يجلسون على الأرض، ومعلمهم على تنكٍ صدئ، إلا أن المشهد كان مؤلمًا في ظاهره، مشرفًا في جوهره؛ لأنه يجسد صمود أولئك الرجال الأوفياء الذين حملوا رسالة التعليم بإخلاص رغم قسوة الظروف.
حين اقترب وقت الظهر، قررت المغادرة عبر طريق تؤدي إلى منطقة (خَلّه)، وهي الطريق ذاتها التي كان يسلكها الأستاذ عيدروس يوميًا ذهابًا وإيابًا من وإلى منزله في قرية (الصرفة). تناولنا الغداء في القرية (الصلئة)، وكان بسيطًا: عصيدة وحقين. ثم تابعنا السير عبر طريق وعرة، لا سيارة ولا دراجة نارية ولا ماء بارد، فقط مشقة ومتاعب وصبر رجالٍ من طين الجنوب."
وصلنا إلى منطقة الحصور، وهناك رافقني الفقيد حتى منطقة خله، وظل يبحث لي عن وسيلة تقلّني إلى الضالع. وبعد انتظار، أوقف شاحنة محمّلة بـ"نيس"، وقال لي: اركَبها بسلام فتوادعنا لبعضنا البعض.
رحمك الله يا صاحب القامة النحيلة، والمظهر الأنيق، والطبع الهادئ.
يا شاعر الثورة، ومثقف الوطن، يا مناضلًا جسورًا، تفيض سيرتك بالعطاء والإخلاص.
لقد كنت نموذجًا نادرًا للمعلم الذي جمع بين الرسالة والقيم، بين التواضع والثبات، بين الصبر والإصرار.
((وفي ختام الحديث، قال الأستاذ الجعدي في لحظة تأملٍ ووفاء: في مشهدٍ يختزل التواضع في أبهى صوره، أدركت أن التعليم رسالة لا وظيفة، وأن العطاء الحقيقي لا تحدّه الإمكانيات))
قال ؛- حديثي عن عيدروس هرهرة لا ينتهي، فهو مدرسة قائمة بذاتها، وسيظل اسمه خالدًا في ذاكرة التربية والتعليم في الضالع والجنوب عمومًا."
_____انتهاء___
في الختام اقول كان ذلك اللقاء بالنسبة لي أكثر من مجرد مصادفة، بل كان لقاء الأجيال بين من حملوا الرسالة ومن يسيرون على أثرهم.
خرجت وأنا أشعر بالفخر والانتماء، مؤمنًا أن ما زرعه والدي و أولئك المخلصون من قيمٍ ومبادئ سيظل حيًا فينا، يضيء دروبنا، ويغذي ضمائرنا.
"كان حديثه يقطر وفاءً ويعبق بالمروءة."
"في عينيه بريق المعلم الأول، وفي صوته صدق الميدان. فالتاريخ لا يكتبه الحبر، بل تصنعه المواقف."بمثل هؤلاء الرجال تنهض الأوطان وتُبنى الأجيال."
رحمك الله والدي الغالي عيدروس علي صادق هرهرة واسكنك فسيح جناته مع الصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا _وحفظك الله استاذ قايد الجعدي وأطال بعمرك واعطاك القوة والعزيمة والصبر. كنتم وستضلون لنا وللاجيال،فخرا نعتز فيكم وبامثالكم


